لذلك نحتاج في هذا المعترك إلى رؤية واضحة ومقاربة واقعية تجمع بين كل الزوايا والأبعاد، بعيدة عن التجاذبات السياسية المملوءة بالهرطقة والتهم والمثاليات، لعلنا نكون لبنة صالحة في ذلك الجدار المنشود بناؤه للتصدي لهذه الظاهرة الميئوس من إنسانيتها والمشهود بغياب مشروعها والمتيقن بفشل أجندتها، إذ اعتمدنا لمقاومة ظاهرة الارهاب والتطرف ثلاث مقاربات تسير وفق منطق فلسفي، وتجمع بين رؤية للفرد داخل المجتمع، ورؤية للمواطن داخل الدولة، أولها المقاربة القانونية ببعدها المدني المعاصر، تليها مقاربة سياسية من منظور عام للشأن الوطني من حيث الإدارة والتسيير، ثم أخيرا وليس آخرا مقاربة ثقافية تمس كامل المنظومة القيمية التي تدور حولها كل العلاقات المجتمعية أفرادا وجماعات ودولة ... ليس من الضروري اليوم أن نتعمق في تعريف الظاهرة الإرهابية والبحث عن أصول التسمية وروادفها وأضدادها، فقد اهتمت كتب الفلاسفة وخاصة فلاسفة الدولة بهذا الباب، ولكن يمكننا أن نستخلص من كل ذلك أن الإرهاب سواء كان من بعديه؛ إرهاب الأفراد والجماعات أو إرهاب الدولة على الأفراد والجماعات؛ هو إفراط في استخدام العنف الذي هو بدوره إفراط في استعمال القوة -كما عبر عن ذلك ماكس فيبير- ولا شك أن هذه الظاهرة كثيرة الغموض وشديدة التعقد بدءا بأسباب التحاق أولائك الشباب بالجماعات المتطرفة، مرورا بطرق اشتغال تلك الجماعات وأساليب التنظم فيها، وصولا لأشكال التصدي لها وآليات الحد من تطرفها ببعديه، سواء الفكري الذي يتجسد في التكفير أو التطرف أو الاستئصال، أو العملي الذي يتمظهر في الاغتيالات والهجمات العنيفة ... إن أولى المقاربات التي نطرحها هي المقاربة القانونية التي بمقتضاها يقع توصيف الفعل وتجريمه، والتي من خلالها توجد أول أرضية مشتركة بين المواطنين المتعاقدين بنص القانون، بما في ذلك رجال الدولة والسياسيين، فالانطلاق من أمر مجمع عليه يعتبر ركيزة في مثل هذه المواضيع، خاصة وأن هذا الملف يعتبر أحد أهم الأسلحة لخوض معركة المزايدات السياسية وتصفية الحسابات الضيقة بين التيارات والطوائف السياسية، ولا يمكننا ذكر هذه المقاربة القانونية دون المرور على دستور الجمهورية الثانية وتثمين ما جاء فيه من تصد لمنطلقات هذه الظاهرة وتجريم سلوكياتها اللفظية والمادية، ودعوة الجميع إلى الالتزام بقيم المواطنة واحترام حقوق الآخر وعدم المساس بحريته... وإنه لمن الضروري على الدولة وسلطتها التشريعية أن تكون أول المتصدين لهذه الظاهرة بتنصيصها على إجرامية تلك الأفعال والسلوكيات المتطرفة بقوانين غير خالية من روحها وقيمتها تكون جدية في التنزيل وناجعة في الحد من تلك الظاهرة، عالمة بحاجيات مؤسساتها خاصة الأمنية منها التي يجب أن تنال حجما مهما من الدعم البشري والمادي والمعنوي، كما يجب أن تكون نصوص ذلك القانون مواكبة لكل التطورات التي تشهدها الساحة من تغييرات سواء إذا امتدت هذه الظاهرة ومست مؤسسات الدولة أو إذا تقلصت وتلاشت ولم تعد في حاجة إلى قانون أنجبته الطوارئ والاستثناءات. من المؤكد أن مجابهة الإرهاب خاصة إذا ارتبطت بأفكار وعقليات تتناقض مع معنى الحياة وسماحة الإسلام وقيم الانسانية لا تقتصر على المقاربة القانونية فحسب،
بل تضل في حاجة إلى معالجة من زوايا عديدة وأبعاد أخرى، ولا شك أن المقاربة السياسية تلعب دورا هاما وفعالا في التقليص إذا لم نقل في القضاء على هذه الظاهرة، والمقصود بالمقاربة السياسية هو أن تتفق كل الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات والناشطين بالمجتمع المدني على ميثاق موحد لعل المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب يكون أحد الحاضنين لهذا الميثاق، يكون فيه الجميع واقفا على أرضية واحدة تكون المصلحة الوطنية شعارها الأول و الأوحد، ولكن المتأمل في المشهد السياسي اليوم لا يرى سوى المشاحنات والمزايدات و لا يسمع إلا توجيه الاتهامات لكسب بطولية موهومة أو انتصارات سياسية مزيفة، مما أدى إلى استفحال هذه الظاهرة بين الأوساط الاجتماعية التي يئست من الطبقات السياسية على مختلف توجهاتها وأفكارها، إذ لم يعد جزء كبير لا يتجزأ من الشعب قابلا للاستماع لتحليلات السياسيين والخبراء، حيث فقدوا ثقتهم في تلك الطبقة في ضل حجم تلك الانتظارات الاجتماعية والاقتصادية منذ الثورة إلى اليوم، حيث أصبح من الضروري على الطبقة السياسية والأحزاب المتصدرة للمشهد السياسي والإعلامي أن تبعث رسائل طمأنة وأمل لتعزز ثقتها بالشعب وانتظاراته، تقطع مع منطق المزايدات و التهم والخطاب الاستئصالي وأن تتحلى بالوطنية الحقيقية التي تقوم على التضامن و التوافق زمن هذه الأزمات وأن تكون هذه الطبقة حاملة لورقات الحلول الاجتماعية والاقتصادية، وأن تكون متيقنة بأن الجهل والفقر هما وقود الإرهاب، فإذا استقامت المدارس واستنارت العقول وإذا شبعت البطون فعندها تكون قد قطعنا شوطا هاما في مقاومة الإرهاب... وبصورة أوضح وجب على الطبقة السياسية أن تتجند صفا واحدا لتزيل ما وقع الإجماع عليه من قوانين رادعة لكل مظاهر التطرف، حاملة معها كل القيم والمبادئ المنظمة لحياة المواطنين، ساعية إلى تمليكها لأنصارها ومنخرطيها وأبنائها، ولكن لا نزال في حاجة إلى مقاربة ثالثة تضمن لنا الديمومة والاستمرارية في هذه المقاومة النبيلة بوعي جماعي وعقل ناضج و منهج مضمون الوصول إلى نهايته المنشودة. إن المقاربة التي من خلالها يقع القضاء نهائيا على التطرف والغلو والعنف بكل أشكاله هي المقاربة الثقافية ... إن كل عملية تغيير أو إصلاح يجب أن تمس كامل شرائح المجتمع أفرادا وجماعات، إذ تكمن أزمتنا الحقيقية في غياب المنظومة القيمية واضمحلالها، ولعل المؤشرات التي تصلنا من الدراسات السوسيولوجية والبسيكولوجية وحدها كفيلة لتوصيف هذه الأزمة التي ألقت بضلالها على كل الفئات العمرية أطفالا وشباب وكهولا، فالأسرة التونسية تعيش أسوأ حالاتها خاصة لما تصدرت تونس أعلى نسب طلاق في العالم العربي، ناهيك عن غياب الأسلوب السليم والمنهج القويم في تربية الناشئة والأبناء، حيث أصبح طابع الغلظة والشدة مترسخ في شخصية الطفل، يميل في كل لحظة إلى استعمال العنف مع الجميع، ولننظر بعين البصيرة في أعيادنا ومناسباتنا الدينية حيث أصبح من عرف الآباء أن يشتروا لأبنائهم -وخاصة الذكور منهم- هدية العيد التي لا تكون إما لعبة سلاح أو مدرعة حربية، نظرا لامتلاء أسواقنا في هذه المناسبات بتلك المعارض من الأسلحة المتنوعة ... لقد أصبح من الضروري اليوم أن نقرع ناقوس الخطر حتى تلتفت الدولة لمجابهة مثل هذه السلوكيات، وأن تضع برامج فعالة لإصلاح الشأن الأسري والتصدي لظاهرة الطلاق واعتماد منهج قيم للتربية والإحاطة بالناشئة منذ المدرسة الأولى ألا وهي البيت. كما لا يسعنا تشخيص وضع القطاع التربوي والتعليمي في مدارسنا ومعاهدنا الذين أصبحوا بؤرا لتعلم الانحراف والانحلال الأخلاقي لفساد علاقة التلميذ بمربيه وأستاذه وغياب الجانب التربوي والقيمي في برامجنا ودروسنا، إذ لا بد من مراجعة المنظومة التربوية والتعليمية يكون فيها التلميذ والطالب نقطة البدء ومحور الحديث فيها، وأن يقع التركيز على البعد الإنساني والروحي للفرد حتى يصبح ممتلئا بذاته وقادرا على التفاعل الإيجابي داخل المجتمع ويؤثر فيه، مستعدا لمقارعة أمواج الحياة العالية وأن لا يكون آلة في يد الخربين والمتربصين بهذا البلد وأهله ... كما يمثل الشأن الديني في البلاد إحدى القطاعات المهمة للتغيير الثقافي، فإذا وقع تهميشه وساءت إدارته انتشرت ظاهرة التطرف والغلو، أما إذا حسن استثماره والعناية به استطعنا أن نقطع نهائيا مع ذلك المنطق السائد في الأوساط الظاهرية والحرفية التي لا تقيم معنا لمقاصد الشريعة وروح الإسلام وقيمه المتمثلة في السماحة والرحمة والقبول بالمختلف والتعايش معه،
و إننا لنحمل مسؤولية سوء فهم بعض الشباب للنص الديني وسلكهم لمنهج التطرف والغلو إلى سياسة تجفيف منابع التدين التي سلكها نظام المخلوع ومنظومة الشرفي المتعصبة، فلم يعد لهؤلاء الشباب مصدرا لأخذ بعض التعاليم الإسلامية سوى تلك المدارس المدعومة من الخارج الممولة من أطراف مشبوهة، بعيدة عن عرف البلاد وتقاليدها المشهود بعراقتها وتميزها التاريخي بفضل المدرسة الزيتونية التي كانت تشع على مشارق الأرض ومغاربها ... إنه من المؤكد على الدولة وعلى القائمين على هذا الشأن أن يعيدوا أمجاد هذه المدرسة وأن يضعوا فيها دعمهم المادي والبشري حتى نقطع أشواطا هامة في تربية الناشئة وإصلاح المجتمع من أجل القضاء على كل الأفكار المتطرفة وذلك باعتماد منهج عقلي مستوعب لمتطلبات المرحلة الحرجة يضمن للجميع حريته وينظم علاقة الأفراد والمواطنين ببعضهم البعض. وختاما، يجب أن نؤكد في هذا السياق على أن التطرف الديني لا يمكن مقاومته بالعلمانية المتعصبة ولا بالشيوعية المستأصلة، وإنما باعتماد رؤية شاملة على جميع المستويات؛ القانونية منها والسياسية والثقافية، تمس كل الفئات والشرائح المجتمعية وتؤدي بنا إلى احترام القانون والدولة ومؤسساتها، وتضمن لنا الإستقرار السياسي والإجتماعي، وتحقق للجميع المكانة اللائقة التي يطمح إليها كل واحد منا بعيدا عن الشحناء والبغضاء من أجل وطن يسع الجميع ودولة في خدمة شعبها و مواطن مثالي يشع بوعيه ورقيه على كامل محيطه.