و يأتي هذا التحرك ، بعد أن أدرك الحكام الجدد أن "كذبة الإنقاذ" بدأت تنكشف..و أن "المليارات" التي وعدوا بها الشعب هي مجرد أوهام و "نقود مزيفة"..و أن الخطاب الذي بيع للتوانسة قبل الانتخابات لم يعد "يودي"..و "لا يجيب" كما يقول المصريون..
في هذا السياق يمكن أن نفهم كيف تتحرك الآلة الإعلامية الضخمة ، و المنظمة ، والتي تعمل ، دون ارتجال ، في إطار إستراتيجية واحدة و تحت قيادة مركزية موحدة ، توجه مختلف مكونات "الآلة" من أفراد و مؤسسات..و تطرح "القضايا" التي يجب تُقدم للرأي العام أسبوعيا و ربما يوميا أيضا..
فهم و تحليل "ميكانيزمات" الآلة الإعلامية لمنظومة الحكم القديمة-الجديدة أمر معقد و يتطلب عملا أكاديميا كبيرا..لكن المتابع للمشهد الإعلامي منذ استلام حزب نداء تونس لمقاليد الحكم ، و "سيطرته" على السلطة التشريعية (رئاسة مجلس نواب الشعب) و رأسي السلطة التنفيذية (رئاسة و حكومة) ، يمكن أن يلاحظ أن المنظومة الإعلامية المرتبطة بالتجمع المنحل قبل الثورة..و بالثورة المضادة و حزب نداء تونس بعد الثورة تعمل على ثلاث محاور أساسية
: 1 – الدعاية للسلطة الجديدة و الحزب الحاكم "نداء تونس" و بعض الرموز السياسية و النقابية و حتى "المعارضة" المرتبطة بشكل أو بآخر بهذا "الحزب" أو هذه "المنظومة".
2 – تشويه خصوم النداء بشكل منسق و مستمر في الصحافة المكتوبة و المسموعة و المرئية.
3- توجيه الرأي العام و التعتيم على القضايا الأساسية و طرح قضايا مفتعلة للمحافظة على قواعد المواجهة السياسية التي يريدها "النداء" و بعض النخب القريبة منه.. .
و لعل أبرز الأمثلة التي تساعد – ربما - على فهم توجهات "الآلة" الإعلامية و أساليب عملها في الفترة الأخيرة..هي عملية "الدفع الإعلامي" ببعض الوجوه من شبكة الفساد و الاستبداد ، من الذين يحلمون بالظهور الإعلامي و الذين لم يعد لديهم ما يخسروه معنويا و أخلاقيا (سيف الطرابلسي مثال) ، و بعض الوجوه المتطرفة و المعقدة "إيديولوجيا" التي تتبنى مقولات فكرية "شاذة" تصنع "الشو" (الطالبي مثال)..و باستضافة أمثال هؤلاء في البلاتوهات التلفزية و تركيز الصحف و الإذاعات على نقل تصريحاتهم "الخارجة عن السائد" ، يصبح الرأي العام الوطني منشغلا "بالخمر حلال أم حرام" - رغم أن هذه المسألة محسومة بالنص و بإجماع علماء الإسلام – و تصبح علاقات "ليلى" و المخلوع السرية محل حديث الناس في المقاهي و الحافلات ، في المقابل ، يقل الاهتمام بالشأن العام و بالمسائل الحياتية و المعيشية للتونسيين.. و يتملص "الحكام الجدد" شيئا فشيئا من مسؤولياتهم ووعودهم الزائفة.. و تعمل "شبكات الحكم" الجديدة في صمت..بعيدا عن "الرقابة الشعبية" و دون "ضغط إعلامي"..
يجب على شرفاء و عقلاء هذا الوطن ، أن يعوا بأن التنافس السياسي في تونس ، بعد الثورة ، و بعد حسم كبرى القضايا الثقافية الفكرية في دستور الجمهورية التونسية الثانية ، لا يكون إلا على قاعدة البرامج و القدرة على إيجاد حلول للتوانسة في مختلف المجالات أمن..اقتصاد..تشغيل..و ليس على قاعدة "صراع الديكة" و الصراع الأيدلوجي "العقيم" الذي تدفع باتجاهه المنظومة القديمة-الجديدة ، و بعض "الشواذ" فكريا من النخب المرتبطة بهذه "المنظومة"..و يجب على كل القوى الوطنية و النخب الفكرية التونسية "المعتدلة" أن لا تنجر لحلبة الصراع و الجدال في قضايا إما وهمية مصطنعة و تافهة أو "محسومة"..و أن تمارس دورها الطبيعي في متابعة أحوال البلاد و العباد.