فرغم أنّهم لا يحبّون السبسي، لأنّه شارك في حكومات بورقيبة التي أذاقت رفاقهم من جماعة «العامل التونسي» أصنافا من التعذيب والسجن، إلا أنّ رفضهم للمرزوقي أشد، لأنه قبل التحالف مع الإسلاميين.
الأغرب من ذلك، أنّ الهمامي، الذي عرف بعدائه الشديد للحركات الدينية، وضع في برنامج حملته للانتخابات الرئاسية زيارة مقام الولي الصالح سيدي علي بن نصر الله، في منطقة القيروان. ونقلت عدسات المصوّرين صوره وهو يرفع يديه على الضّريح، ويؤمّن على دعاء وكيل المقام، ويقرأ معه فاتحة الكتاب. وهذه سابقة لا نظير لها في تاريخ اليسار التونسي. لقد أصبح العقل الحزبي المهوس بالشّأن الانتخابي، يقرّ الشيء ونقيضه. ويسمح لحمه الهمامي «نصير الفقراء والمحرومين» ومؤلّف كتاب «ضد الظلامية» وكتاب «حركة النّهضة أمّ حركات الانحطاط»، أن يتّخذ المواقف السّالفة، وهو لا يكاد يغيب يوما عن شاشات التلفزيون «ليدحض رأي خصومه ويكشف باطلهم».
الهمامي، أو الجبهة الشعبية، ليست استثناء في تونس، وإنّما هي واحدة من الحركات والأحزاب الكثيرة، التي لم تعد لها بوصلة واضحة يلتجئ إليها المواطن العادي ليفهم مواقفها. فقد سكن الخطاب الحزبي في تونس، قلق واضطراب كبيران، أصابا صدقية هذه الأحزاب وفتّتا شعبيتها، إن كانت لها صدقية وشعبية. الشّيء نفسه تجده في خطاب قادة حزب نداء تونس الذي يتزعّمه الباجي قايد السبسي، ويضمّ أنصار النّظام السّابق. فرغم تأكيد قادة هذا الحزب على أنّهم حريصون على أمن تونس وسلامتها، متشبّعون بمبادئ الديمقراطية واحترام الحريات، إلاّ أنّهم، وبسرعة لافــــتة، لا يتردّدون في إعطاء تصريحات تناقض ذلك.
فقد اتّهموا من منحوا أصواتهم للمرزوقي «بالمتطرّفين والإرهابيين»، كما فعل السّبسي نفسه في حوار له مع إذاعة فرنسية. ودعا قياديّ آخر من الحــزب نفسه، إلى حلّ الأحزاب التي أعلنت دعم المرزوقي في الانتخابات.
حركة النّهضة، لم تسلم من هذا التناقض، خصوصا في ما يتعلّق بموقفها من الأحزاب المنحدرة من حزب التّجمّع الحاكم سابقا، خصوصا حزب نداء تونس الذي يحظى بدعم غربي واضح. فبعد أن تبنّى نوابها في المجلس التأسيسي، عددا من مشاريع قوانين، تهدف لإقصاء رجال النظام السابق ومحاسبتهم والتّعويض لضحايا الاستبداد، عكس قادة حركة النّهضة اتّجاه السّير مئة وثمانين درجة، وحملوا نوابهم في المجلس التأسيسي على ذلك حملا. يقول الشيخ راشد الغنوشي في أحد حواراته التلفزيونية «نحن منعنا قانون عزل (رجال) النّظام السابق، ومنعنا صدور قانون تحصين الثّورة، ومنعنا الفصل 167 من القانون الانتخابي الذي يمنع مسؤولي الحزب السابق». ويضيف مبرّرا هذا التوجّه «التوافق مبدأ ضروري للمرحلة القادمة، ونحن مستعدّون للتحالف مع أيّ حزب، ليس لنا فيتو ضد أيّ حزب». والمقصود هنا حزب ّنداء تونس». كما طلب من أبناء «النّهضة» الالتزام بقرار قيادتهم الحياد التام في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية: حياد مقرات الحركة ومكاتبها وزعمائها. وقال: نحن لسنا جزءا من هذه المعركة، بل إنّه طلب من المرزوقي سحب الطعون التي قدّمها في نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وهو مطلب لا يستفيد منه إلاّ السبسي.
هذا الخطاب في حركة النّهضة، ليس خاصا بالشيخ راشد الغنوشي، فقد حرص قياديو الحركة على تمثّله، كلّ حسب فهمه واجتهاده. وقد سبق لسمير ديلو وزير حقوق الإنسان في حكومتي الجبالي والعريّض، أن وصف أنصار حركة «فيمن» من الفتيات اللاتي تظاهرن عاريات الصدور في تونس، بأنّهنّ مناضلات. واعتبر وزير آخر، هو عضو في المكتب التنفيذي للنهضة، في حوار صحافي، أنّ حزب التجمّع (الحاكم سابقا) الذي قامت عليه الثّورة، يشترك مع حزب النّهضة في النضال من أجل الحــرية، ودخول السجــــون من أجل ذلك، والإيمــان بالديمقراطية، واعتماد الإسلام عقيدة.
لا نناقش الدوافع، أو بالأحرى الإكراهات التي دفعت الشيخ الغنوشي إلى تغيير خطابه، والحرص على كسب ودّ الباجي قائد السّبسي وأنصاره، ولكنّ هذا التحوّل الكبير في الخطاب، وفي الثّوابت، لم يصاحبه توضيح وشرح كاف لأنصار النّهضة الذين منحوها ثقتهم في الانتخابات، بل حتّى لأعضائها، خصوصا لقاعدتها العريضة، التي اكتوت بنار الاستبداد خلال ثلاثة عقود كاملة. لم يجد هؤلاء جوابا يقنعهم بتغيير الخطاب، وإعادة النّظر في التحالفات السابقة التي ألفوها. كما أنّه من الصّعب جدّا على شباب عانى من الظلم والفقر والبطالة، وعانق الثّورة والتحم بها، أن يقبل بمثل هذا الخطاب.
إنّ المتتبّع لخطب الشّيخ راشد الغنوشي وتصريحاته الصحافية وتحرّكاته خلال السنتين الأخيرتين على الأقل، يلحظ بوضوح، أنّه متّجه إلى الآخر. الآخر داخل تونس من بقايا النظام السابق الذي مازال يحكم البلاد ويُحكم قبضته على مؤسساتها، وموجّه خصوصا إلى خارجها من القوى الإقليمية والدولية المتربّصة بالثّورة، لكنّ رهانه على هؤلاء، وإهماله للداخل، سواء داخل حركة النّهضة، أو من عموم التونسيين، سيضعه في وضع صعب، وسيحدث خللا خطيرا في الحزب.
هذا الخطاب الذي يراه عموم التونسيين متناقضا، ويصفه كثيرون منهم بأنّه «خطاب انتهازي مصلحي يتاجر بالثورة وبدماء شهدائها»، كما عبّر عن ذلك كثيرون في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المقاهي والمجالس، أحدث فجوة عميقة بين قادة الأحزاب السياسية، ونسبة كبيرة من التونسيين، خصوصا منهم الشباب. لذلك، ظلّ الطابع الطاغي على الخطاب الحزبي، قلقا متردّدا وحائرا، يحمل الكثير من الغموض والتناقض.
خطاب تعتبره أقلية من المتحزّبين مقبولا، وهو في أعين المريدين مقنع، ولكنه مهجور ومتّهم لدى العامة. هذا الوضع، مرشّح إلى أن يفرز تيارا سياسيّا جديدا، يتغذّى من قاعدة الأحزاب المتردّدة. فالخطاب السياسي الحائر والمتقلّب في مواقفه، أصبح عبئا ثقيلا ليس فقط على المتحمّسين للثّورة، بل على نسبة غير قليلة من التونسيين.
٭ صحافي ومحلّل سياسي تونسي