عض العبر و الدروس. ما أفرزته الانتخابات من نتائج تمثلت في تقدم حركة «نداء تونس» الليبرالية على حركة «النهضة» الإسلامية مع انتكاسة كبيرة لبقية الأحزاب الأخرى سواء تلك التي كانت شريكة في الحكم أو التي كانت تعتقد أنها معارضة جادة… هذه النتائج يمكن اعتبارها جيدة للبلاد و استقرارها، للديمقراطية و تقدمها، و لحركة «النهضة» و مراجعاتها: – جيدة للبلاد و استقرارها… على أساس أنها أعادت إلى تونس مشهدا سياسيا يشبهها أكثر من الذي كان سائدا قبلها. و اليوم اتضح أن عدم تمرير العزل السياسي الذي كان سيقصي كل من كانت له علاقة بالحزب الحاكم السابق خطوة موفقة لأن لا أحد الآن في البلاد يقف مشككا أو متقمصا دور الضحية . لا أحد بإمكانه الآن أن يخرّب العملية السياسية في البلاد سوى تيارات العنف و الإرهاب التي لم يكن ممكنا على كل الحال ضمها لهذه العملية الرافضة لها منذ البداية. و بتوازن القوى السياسية في الساحة و مشاركة الجميع، الذين قرر الشعب أحجامهم، يمكن عزل قوى التخريب و محاصرتها للانصراف لمعالجة أزمات اجتماعية و اقتصادية كبيرة للغاية. - جيدة للديمقراطية و تقدمها… لأنها أظهرت أن ثقة الناس رصيد متحرك صعودا و نزولا، و أن لا أحد من القوى السياسية يمكن أن يضمن استمرار وقوف الناس خلفه إن لم يكن هو قادرا على أن يظل في مستوى توسمهم الخير فيه . من هنا صعدت حركة «نداء تونس» التي لم تكن موجودة أصلا في انتخابات 2011 فيما تراجعت «النهضة» و انتكست أحزاب أخرى آن لها أن تعيد حساباتها من نقطة الصفر. بهذا أرسى التونسيون مبكرا و بسلاسة مبدأ التداول السلمي على السلطة معلين بذلك قيمة صناديق الاقتراع التي تمنح التفويض الشعبي و تسحبه أو تعدّله كما تريد . - جيدة لحركة «النهضة» و مراجعاتها… إذ كان من الإيجابي للغاية أن تسجل الحركة نفسها كأول حركة إسلامية في التاريخ المعاصر تمسك الحكم بالانتخاب ثم تتركه بصيغة توافقية مع الآخرين قبل أن تنزلها الصناديق من موقع الصدارة. لقد صعدت الحركة في انتخابات 2011 بأصوات مناضليها و المتعاطفين معها، لكن هذه الانتخابات الأخيرة عكست وزنها هي الحقيقي في الساحة و هو وزن ليس بالبسيط لأن لا أحد آزرها هذه المرة سوى قاعدتها الخالصة. لم تكن الحركة مهيأة للحكم في المرحلة الماضية و ارتكبت أخطاء عديدة لكن يفترض أنها تعلمت الكثير الآن و يمكن أن تتعلم أكثر و تتمرس سواء عادت إلى الحكم بتحالفات مغايرة أو بقيت في صفوف المعارضة. و يبقى من المناسب الآن المسارعة بالتوجه إلى حركة «نداء تونس» بكلمات صريحة حتى لا تنجر إلى استنتاجات خاطئة تضللها و قد تضلل البلاد معها. ما من حزب ينشأ حديثا و يستطيع أن يجمع كل هذه الأصوات في أول انتخابات يتقدم لها لولا الدعم الإعلامي الذي لقيه و الذي تقف وراءه دوائر عديدة لا فائدة في الخوض في طبيعتها استفادت من حالة الاستياء المشروعة التي خلفها الفريق الحاكم السابق. لقد صوت التونسيون بهذا الشكل لحركة «نداء تونس» لسببين رئيسيين: – الأول: معاقبة حركة «النهضة» و الانتقام مما اعتبر مسؤوليتها في جر البلاد إلى نقاشات لا وجاهة لها قسمت البلاد بشكل حاد في فترة من الفترات و كادت أن توقعها في صدامات خطيرة، فضلا عن اعتبارها المسؤولة الأولى عن تراجع الوضع الأمني و خاصة تنامي ظاهرة التشدد الديني في المجتمع إلى أن وصلت الأمور إلى الدم و السلاح. – الثاني: اعتبار قسم كبير من التونسيين أن حركة «نداء تونس» تمثل بشكل أفضل نمط المجتمع الذي تعودوا عليه و يطمعون في بقائه، أي ذاك المجتمع المنفتح البعيد عن إكراه نوع معين من التدين أو صرامة الإيديولوجيا أو بريق الشعارات، و القادر على التسامح مع الاختلاف و احترام الحريات الشخصية مع مكانة للمرأة التونسية كما عرفوها في العقود الماضية و ليس كما «استوردت» من مجتمعات مشرقية و خليجية. لم يكن تصويت التونسيين لحركة «نداء تونس» تأييدا لأطروحات سياسية أو اقتصادية محددة ناهيك عن أن يكون لبرنامج بعينه، بحيث إذا لم تسارع هذه الحركة إلى الاستجابة السريعة لمتطلبات ملحة مثل إعادة الاعتبار إلى العمل و هيبة القانون و مكانة الدولة و نظافة المدن و الشوارع و فتح بارقة أمل في قضايا التنمية و التشغيل و مواجهة الفقر و تكاليف الحياة الملتهبة و جلب الاستثمارات الخارجية المترددة فإنها قد تجد الرأي العام و قد بدأ ينقلب عليها خاصة إذا لم توفق في اختيار الوجوه المناسبة لتحمل أعباء هذه المهام. أروع ما سجلته الانتخابات التونسية الأخيرة من دروس أن الحركات تصعد و تنزل في مسار ديمقراطي، يترسخ تدريجيا ، بناء على قدرتها على التجاوب مع تطلعات الناس و طموحاتهم و أن هؤلاء الناس قادرون بدورهم على تعديل الموازين بعيدا عن الانقلابات و العنف و المغامرات. إذا لم تحقق الثورة التونسية سوى هذا… فقد نجحت.