التدافع السياسي في تونس: بين الرؤية الاستراتيجية والمكاسب الصلبة والفعل التكتيكي والمكاسب الهشّة
زووم تونيزيا
| الثلاثاء، 14 جانفي، 2014 على الساعة 21:56 | عدد الزيارات : 1267
بقلم جمال العكرمي
من تكون زاوية نظره ضيّقة يشاهد العالم من سمّ خياطٍ فلن يرى إلا جزءًا من المشهد وستغيب…
نه عدّة مشاهد ولن يدرك كواليس الأحداث وطبيعة وحقيقة الفاعلين فيها، وسيَغفل عمن يتحكّم في صيرورة المَشاهد.
لم تشعر بعض النخب السياسية بمدى التغيير الذي حصل في البلاد والعالم، هل هو حدث خلخل أركان أنظمة وسيفرز توازنات جديدة ويدفع بدول طرفية وأنظمة جديدة إلى التموقع داخل دائرة اهتمام ونفوذ دول المركز. أم أن ما حصل ذات 17 ديسمبر وما تلاه من أحداث كانت شرارة غضب وانتفاضة جيّاع ستنطفؤ عندما تمتلؤ البطون؟
هذا السؤال المركزي كان محور الصراع والتدافع بين النخب السياسية التونسية، ولكي نفهم سبب الأزمة السياسية في البلاد علينا العودة إلى مواقف بعض النخب والأحزاب من الانتفاضة الديسمبرية، ثم كيف تعاملت تلك النخب معها؟
هناك من فاوض النظام وقبِل بإصلاحاته الوهمية المزعومة وتجسّد ذلك في مواقف البعض ليلة 13 جانفي وما بعدها. المعضلة بدأت في عدم تكوين كتلة تاريخية تحمل موقفا واحدا ورؤيةً وفهمًا موضوعيا لطبيعة المرحلة واستحقاقاتها، كتلة تقدر على مواجهة النظام والبدأ في إصلاحات جذرية في الإدارة والمؤسسات التونسية والتموقع والإندراج الإقليمي الذي سيجعل من البلاد محل اهتمام وتأثير في المشهد الإقليمي العالمي.
لكن رأينا تلك النخب والأحزاب ذهبت للتفاوض فرادى مع رموز النظام والخارج.
أغلب النخب والأحزاب السياسية أرادت حسم المعركة لصالحها لا لصالح الوطن ونسيت أهداف الانتفاضة الديسمبرية مستعجلة بذلك قطف ثمار مناخ الحرية وحالة الإرباك الذي طرأ على النظام النوفمبري.
نخبة سعت لكسب مكاسب هشّة لا مكاسب استراتيجية صلبة ومن هنا فشل البعض في تحديد عقدة الصراع ومجال الحسم.
إنّ حُكمنا على فشل بعض النخب والأحزاب في تحديد عقدة الصراع وطبيعة الفرز ومجال الحسم سيكون إعتمادا على عدّة مؤشرات منها: ممارسات تلك الأحزاب فعلاً وقولاً ومنطقَ فعل.
كان منطق التدافع عند البعض تدافعًا صفريًا يقوم على الإقصاء ولما لا الاستئصال، وقد تعرّض الطرف الأقوى في المشهد السياسي إلى حالة من الهرسلة وقصف إعلامي بل وصل الأمر حد إحراق مقّرات حزب حركة النهضة، تشويه لقياداتها، ومحاولة إرباك الحركة وضرب وحدتها...
تلك النخب والأحزاب السياسية التي فهمت أن الصراع صفري أخطأت في تحديد بيئة الصراع وموضوعه، فإعتبرت أن الصراع محليًا فقط، كما اعتبرته صراع مرجعيات وصراعًا هووي لا تدافعًا تنافسيًا من أجل تثبيت الحريات ومعالجة وضع إقليمي دولي.
فكيف كان منطق فعل هؤلاء وحسمهم لهذا التدافع؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب علينا معرفة الطرف الثاني الذي فهم بأن منطق التدافع هو تدافع تنافسي تساومي.
قبل الانتخابات كانت حركة النهضة وبعض الأحزاب تدعو إلى التوافق فنتج عن ذلك حكومة ثلاثية أخرجت البلاد من هاجس حكم الحزب الواحد، لأن الوطن في مرحلة حسّاسة. مرحلة تأسيس وبناء لابدّ أن تخضع لمنطق المشاركة في البناء لا الإنفراد فيه.
من هنا حدّدت النخب مجال حسمها للمعركة والتدافع، وحدّدت أهدافها والقوى والوسائل الموصلة إليها.
الذين فهموا أن منطق التدافع إقصائي لا تنافسي تشاركي لم يمتلكوا إستراتيجية واضحة وصائبة وبالتالي لم يكن تكتيكهم بارعًا، فهم لم يُدركوا حقيقة ما حصل في وطننا ولم يكونوا ملمّين بكافة الظروف والأوضاع المحيطة بنا ولم يفهموا المتطلبات الآنية للواقع والعاجلة والبعيدة له، ولم يستوعبوا المتغيّرات فيه وما يستوجبه من رؤية شمولية للوضع محليًا وإقليميًا ودوليًا...
الذين أرادو حسم المعركة بسرعة وإقصاء طرف أقوى منهم لم يعرفوا أنّهم لا يمتلكون روافع قويّة تساعدهم على تحقيق هذا الهدف، كما لم يدركوا أنّ بلادنا في دائرة الاستهداف الجيوستراتيجي، وأنه من أراد إدارة هذه المعركة يجب عليه إدارتها على ثلاث وجهات: محليًا وإقليميًا ودوليًا، لكن هؤلاء أداروا معركةً محليّةً فقط فغابت عنهم الإستراتيجية الواضحة وكان أغلب فعلهم تكتيكيًا كسبوا بموجبه مكاسب هشّة.
بعد إغتيال شكري بالعيد تحصّلت تلك الأحزاب على مكاسب هشّة، منها تغيير بعض الولاّة وتحييد وزارات السيادة في المقابل حافظت الترويكا على تمثيليتها في الحكومة وعلى المجلس التأسيسي كشرعية وحيدة في البلاد وصمّام أمانها.
اغتيال أول لم يحقق أهداف المتربصين بالوطن ورغبتهم في وأد التجربة الديمقراطية الجنينية. فجاء الاغتيال الثاني وكان سقف المطالب هذه المرة مرتفعا ارتفاع رغبة هؤلاء في تعجيل حسم المعركة لكن تسرعهم أربكهم وجعلهم يُديرون المعركة بالطريقة الخطأ وبالوسائل الخطأ.
فضرب التيّار التقويضي الساعي لوأد التجربة بقوّة عبر الترتيب السياسي متمثلاً في تكوين جبهة إنقاذ ومطلب حل المجلس التأسيسي أكبر سلطة شرعية في البلاد، وترتيب شعبي بتحشيد الشارع ومحاولة الإرباك وزعزعة الأمن. كما وجد هؤلاء دعما غربيا كان السند الجيوستراتيجي واللوجستي لخياراتهم السريعة في حسم الصراع والانقلاب على ما أفرزته نتائج 23 أكتوبر من قوى جديدة. فسرّعت العمليات الإرهابية والاغتيالات في صفوف الجيش والحرس الوطني من ساعة الحسم...
لم يعرف هؤلاء طبيعة المعركة وحجم الخطر والتهديد الذي تواجهه البلاد وحالة العنف التي من الممكن أن نصل إليها والتي ستهدد السلم الاجتماعي وتُدخلنا في معركة وحرب أهلية نحن غير قادرين على تحمّل تبعاتها.
لم تفهم مكونات جبهة الإنقاذ أن حسم المعركة محليًا لن يكون في صالحهم لغياب السند الجماهيري والقاعدة الشعبية لتحركاتهم، فكانوا بوعي أو من دونه بيادق في يد محاور إقليمية دولية جعلت من تونس دائرة استهداف وحاولوا بموجب ذلك إفشال الانتقال الديمقراطي في البلاد.
سعت تلك الأحزاب ومعها إتحاد الشغل إلى تقويض الشارع وتحريكه لإجبار حركة النهضة والترويكا على التنازل، فكان الردّ على تحركاتهم بتحرك القصبة في 3 أوت 2013 الذي كان رسالة قويّة للداخل والخارج. فحركة النهضة مازالت تتحكم في المشهد الداخلي وأنها الأقوى شعبيا، ورسالة للخارج بأن الحركة هي القادرة على حفظ المصالح والتوازنات وقد برهنت حركة النهضة أنّها قادرة على حفظ الدولة واستمراريتها عكس بعض الأحزاب التي اقتحمت مقرات الولايات ونصبت خيامًا وكوّنت تنسيقيات وولاّة موازين ... !!!
كان مطلب حل المجلس التأسيسي قطرة أفاضت الكأس فإتضّح المخطط الانقلابي لهؤلاء لكن المرحلة دقيقة والبلاد تعيش حالة احتقان فكان لابد من وجود حالة استيعاب وتنفيس تمثل في الحوار الوطني وتنازل الطرف الأقوى عن مكاسب هشّة يستطيع استردادها بسهولة، في مقابل المحافظة على المكاسب الصلبة وهي الإبقاء على المجلس التأسيسي كأعلى شرعية في البلاد وإنجاح المرحلة الانتقالية بإتمام الدستور والوصول إلى الإنتخابات.
القبول بالحوار الوطني وتحميل الطاولة السياسية ما تستطيع حمله أخرج البلاد من دوّامة المجهول واستطاعت حركة النهضة تحييد اتحاد الشغل وتحميله جزءا من مسؤولية إنجاح التجربة الديمقراطية في البلاد، كما استطاعت حركة النهضة إدخال حالة من الإرباك في صفوف المعارضة وخاصة الإتحاد من أجل تونس، وتوتير العلاقة بين الجبهة الشعبية والنداء، بل إن جبهة الإنقاذ أنقذت النهضة وسمحت لها بالوصول إلى هدفها الاستراتيجي، بل إنها ستمكنها من ترميم بيتها الداخلي وتقوية ماكينتها الإنتخابية...
هكذا تحصلت المعارضة على مكاسب آنية هشّة وشهدت عدّة انقسامات في صفوفها، وقد عرف الشعب حقيقة بعض الأطراف ومن يسعى للفوضى، وكانت الرسالة للخارج واضحة بأن حركة النهضة قادرة على حفظ التوازن والهدوء داخل البلاد وعلى حفظ التوازنات الإقليمية...
عموما نجد أن عدة نخب سياسية وقعت في دائرة حسابات الحاجة الآنية مما جعل قراراتها السياسية مرتجة ومهتزة وغير مستقرة على قاعدة محددة، فرضيت تلك الأطراف بمكاسب هشّة، في حين وجدنا الطرف المقابل قد استوعب حجم التحوّل الذي أفرزته الانتفاضة الديسمبرية ومجرى السياسة الدولية ومعطياتها ووقفت على تحديد موازين القوى وحجم تأثيرها وطبيعة العلاقة مع الجماهير والمزاج العام للشعب التونسي وإلى التحديات الجيوستراتيجية فأراد هذا الطرف إيجاد موقع وإركان جيوستراتيجي...
فشلت بعض نخبنا السياسية في تحديد عقدة الصراع وتحديد مجال الحسم، أداروا المعركة الخطأ بالفلسفة والوسائل الخطأ. كان من المفروض أن يكون الفرز والمعاملة من الوهلة الأولى فرزا ثوريا وأن يكون الصراع تنافسيًا والسعي لتأسيس مشروع وطني جديد طالما انتظره التونسيون مشروع تعود فيه السلطة والسيادة للشعب. مشروع يؤسس لقيم الحرية والمواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية.
مشروع يقطع مع الفساد ومع النظام الكلياني الذي حكمنا وتحكّم في رقابنا، مشروع نتجاوز فيه حالة الحيف الاجتماعي والاستبداد السياسي والاستلاب الثقافي...