بقلم ناجي خويلدي/ أستاذ وباحث, بنزرت
Normal
0
21
false
false
false
FR
X-NONE
…
-SA
/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:"Tableau Normal";
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-qformat:yes;
mso-style-parent:"";
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin-top:0cm;
mso-para-margin-right:0cm;
mso-para-margin-bottom:10.0pt;
mso-para-margin-left:0cm;
line-height:115%;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:11.0pt;
font-family:"Calibri","sans-serif";
mso-ascii-font-family:Calibri;
mso-ascii-theme-font:minor-latin;
mso-hansi-font-family:Calibri;
mso-hansi-theme-font:minor-latin;
mso-bidi-font-family:Arial;
mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}
إن المتأمل في الحراك السياسي في تونس خلال الفترة الأخيرة, وفي إطار مسار ثورة الحرية و الكرامة, يلاحظ تواتر مبادرات الحوار, وآخرها مبادرتي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة , وقد اتخذت هذه المبادرات لنفسها ظاهريا هدف الانتقال بالوضع العام للبلاد من حالة المؤقت الشرعي إلى حالة الدائم الدستوري عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية, بعد الانتهاء من صياغة الدستور. لكن مضمونها اكتفي بالتركيز على السياسي, الذي يصب أساسا في خدمة الثورة المضادة, المتكونة من المتربحين من النظام البائد والمتموقعين في العديد من مفاصل الدولة والمجتمع, والأحزاب السياسية المفرخة من التجمع المنحل, والمتقاطعين معها من المنهزمين في انتخابات أكتوبر 2011. ونظرا لطبيعة المنظمتين, الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة و التجارة, كان من المفترض أن تكون تلك الحوارات مستهدفة أساسا إزاحة الركام الاقتصادي الذي خلفته عقود من الاستبداد والفساد, والتفكير في حلول للدفع بالمسار الثوري في إطار عالمي يتميز بدوره بالتأزم الاقتصادي. لكن المداولات والتصريحات بينت أن الهدف الأصلي لهذه الحوارات هو المحافظة على ذلك الركام وعدم المساس به كمنظومة, أو الانتقال عبره بطريقة منظمة/ناعمة لا تمس ببنيته السياسية والاجتماعية, وبذلك يتم الانزياح بثورة الحرية والكرامة عن تحقيق أسمى هدف لها وهو تدمير تلك البني والتأسيس لبنى جديدة -تقطع مع الفساد- ولثقافة اجتماعية واقتصادية متمأسسة تمنح للبعد الوطني الأولوية المطلقة بتحويل التفكير من أجل "الأنا" إلى التفكير من أجل "النحن".
لقد بنيت منظومة الاستبداد في بعدها الاقتصادي على آلية تهدف إلى النفوذ وتكديس الثروة, واستعملت السياسة باعتبارها ممارسة لتسيير شؤون المجتمع الداخلية والخارجية لمصلحة الكل, فقد كانت- السياسة- وبفعل هيمنة الحزب الواحد والقائد الملهم وسيلة ضغط لخدمة مجموعات معينة منتظمة في شكل شبكات أخطبوطية تمتد من أعلى هرم السلطة إلى البنى العميقة للمجتمع, في إطار من التواطؤ بين السياسي والاقتصادي, فظهرت أقطاب نفوذ من طبيعة عائلية متمثلة في العائلات الحاكمة من عائلة بن علي إلى عائلة الطرابلسي والمبروك وشيبوب والماطري وغيرها من العائلات التي شكلت حزاما لها لضمان التواصل وجمع الثروة في إطار تلك الشبكة الأخطبوطية , ينضاف إليها متنفذين سياسيين وإعلاميين ومثقفين ونقابيين تغولوا اقتصاديا بتواطئهم مع السلطة المركزية. وكل هذه الأقطاب المتنفذة استطاعت أن تحدث تعددية غير مسئولة في التسيير واتخاذ القرار سواء في أعلى الهرم السياسي أو داخل المؤسسات العمومية, التي تحولت بفعل انحراف الصراع السياسي إلى أجهزة مسهلة لبلوغ الثروة والنفوذ. وانتشرت لذلك ظواهر مدمرة لثقة المجتمع بنفسه مثل التلاعب بالاختبارات الوطنية وعروض الشغل الوهمية واحتكار المواقع الوظيفية وظاهرة الهجرة غير الشرعية أو "الحرقان" والاختطافات المنظمة, كما انتشرت مصطلحات شكلت الجهاز المفاهيمي لمنظومة الفساد مثل "شحمو" "لكتاف" "عندكش شكون" "ما عندك وين توصل" ...في مثل هذا الإطار السياسي والثقافي كان يدار الاقتصاد, حيث هيمن المنطق الانتهازي الغنائمي المتمحور حول "الأنا" أو المصلحة الذاتية.
وقد وجد ذلك "المنطق" في طبيعة النظام العالمي المهيمن الأرضية المناسبة لكي يسود. فالعالم منذ نهاية الثمانينات والى اليوم تهيمن عليه "النيوليبيرالية" أو "الليبرالية المحدثة" –ما بعد الكاينسية[1]- والمقصود بها تلك المجموعة من النظريات الاقتصادية التي ترى أن اقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي خير السبل لتحقيق المجتمع الحر وزيادة رفاهية شعوب العالم المنفتحة اقتصادياتها على السوق العالمية, ويمثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي الأداتين التنفيذيتين لها, حيث فرض على دول العالم الثالث بما في ذلك البلاد التونسية برنامج الإصلاح الهيكلي الذي يرتكز على التفويت في المؤسسات العمومية لفائدة القطاع الخاص وتدعيم الانفتاح, وصار لزاما على الدولة أن تراعي متطلبات جذب الاستثمار الأجنبي, وذلك من خلال تقديم الهياكل التحتية المغرية, وتقديم تنازلات وإعفاءات ضريبية متزايدة, ومنح المساعدات المالية لأصحاب الثروة على أمل إغرائهم في اقتصاد الدولة/العائلات الحاكمة.فتحول الاستثمار الخارجي وتهيئة البنية التحتية مجالا لتكديس الثروة لدى تلك العائلات, وتوزع المشاريع بمختلف أصنافها حسب الو لاءات والانتماءات إلى أجزاء تلك الشبكة العنكبونية, كما استنزفت العديد من المؤسسات المالية والصناديق الاجتماعية. وتدعم هذا التوجه بالانخراط العضوي للنظام البائد في المشروع الامبريالي الصهيوني والمتمثل في" الشرق الأوسط الكبير" الذي يدفع في اتجاه الزيادة في قمع الشعوب العربية الإسلامية تحت مسمى "مكافحة الإرهاب", لدمج الكيان الصهيوني في النسيج الاقتصادي والثقافي لها, والقبول به كواقع قائم وشرعي لا يمكن التشكيك فيه علاوة على مقاومته, بهذا المعنى لقي النظام البائد كل الدعم المادي والمعنوي من أطراف إقليمية ودولية متبنية لذلك المشروع, هذا الدعم الذي حدا بالرئيس الفرنسي الأسبق "جاك شيراك" إلى وصف الوضع الاقتصادي بتونس ب"المعجزة الاقتصادية". من ناحية أخرى تخلت الدولة نهائيا عن مسؤوليتها المالية الملقاة على عاتقها بفعل التحولات الاجتماعية المختلفة, كالبطالة المتفاقمة والحاجة إلى الزيادة في الإنفاق الصحي والتعليمي والسكني والغذائي وكل مقومات التنمية, وعوضت عن ذلك بماكينة إعلامية تشتغل على المستويين الداخلي والخارجي لتلميع صورة النظام, وجهاز أمني قمعي في تحالف عضوي مع الحزب الحاكم, مخترق لكل مفاصل المجتمع من خلال تجنيد أعداد مهولة من المخبرين لمراقبة ومحاصرة كل نفس تحرري أو تذمري, مقابل الحصول على فتات من الغنيمة. وتم الشروع فعليا في التدمير الممنهج للمؤسسات العمومية في مختلف المجالات بهدف إفلاسها, تمهيدا للتفويت فيها لصالح القطاع الخاص المحلي والأجنبي, في إطار من السمسرة المافيوزية التي تشرف عليها "دولة القمع", وبتواطؤ من منظمات المجتمع المدني, فصارت البلاد بين مطرقة النظام الفاسد وسندان ترتيبات النيولبيرالية أو الليبرالية المحدثة, وقدم المجتمع في هذا الإطار العديد من التضحيات/الآلام من طرد تعسفي عد بالآلاف في القطاعين العمومي والخاص, إلى الاستغلال المهين لليد العاملة التونسية, التي حرمت في أغلبها وبطريقة ممنهجة وتحت مظلة الحكم الفاسد من أدنى الضمانات الاجتماعية, سواء من رأس المال المحلي الذي كان يكتفي بالمساهمة في تمويل "صناديق الفساد" ودفع "خفارة" الاحتماء بالعائلات المتنفدة, أو رأس المال الأجنبي الذي ينشط خارج أي ضابط موضوعي في إطار من العلاقات النفعية الشخصية مع أفراد تلك العائلات.
عوض أن تتوجه الحوارات نحو البحث في إزاحة هذا الركام الاقتصادي الذي عرته ثورة الحرية والكرامة بعد تحطيمها لتلك البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, التي كانت تقوم عليها دولة الفساد, والعمل المشترك على إيجاد تصورات في سياق ثوري لتحديد آليات للحد من تأثيرات النيوليبيرالية التي بدأت تعرف انحسارا في الدول الغربية التي ظهرت بها وفرضتها, اتجهت تلك الحوارات "الاقتصادية والاجتماعية" إلى محاولة إعادة استهلاك ذلك الركام بترميم بنية الفساد الساقطة بفعل ثورة الحرية والكرامة, من خلال الفرض القسري لأطياف الثورة المضادة سياسيا واقتصاديا ضمن الحراك العام الذي تعرفه البلاد لتجنيبهم المساءلة والمحاسبة والعمل على تعطيل المسار الثوري بفعل ترسيخ الاستقطاب العلماني- الديني الذي فرضه الاستبداد على المجتمع خدمة لأغراضه ومـآربه في الاستحواذ على السلطة والثروة, والذي يؤول إلى قطع الطريق على مواصلة المسار الثوري, عبر خلق انقسامات عمودية في جسم المجتمع ذاته, وإيجاد الوقائع الملائمة لتدعيم ذلك الاستقطاب, مثل أحداث "الشعانبي" وزوبعة المؤتمر الثاني لأنصار الشريعة في القيروان, بينما يتم إهمال مصالح المواطنين منظور إليها أفقيا, كل هذا بالتوازي مع تلميع قوى الثورة المضادة بمختلف تلويناتها القطاعية/المهنية أو السياسية والإعلامية, في اتجاه إعادة إنتاج منظومة الفساد والاستبداد بكل مكوناتها, حيث تسود أقلية غالبة على أغلبية مغلوبة, فاقدة لأدنى حقوق المواطنة.
إن الدفع في اتجاه الاقتصار على الاهتمام بالحريات والتفاصيل الدستورية وطبيعة وشكل الحكم في الانتخابات وتداول السلطة من قبل الثورة المضادة والمتعاطفين معها على الرغم من التنازلات الهامة التي قدمتها الأغلبية الحاكمة بالشرعية الانتخابية, هو دفع في اتجاه عدم المساس بنموذج التبعية الاقتصادية والسيادة المنقوصة المسببان إلى جانب الاستبداد, للفقر والبطالة والفساد أيضا, وهو سمة ملازمة للنظم الاستبدادية والتابعة عموما. وقد أزاحت ثورة الحرية والكرامة الغمة عن أوهام أكثر من أربعة عقود من الانفتاح الأهوج على السوق الدولية, ومن إقحام الاقتصاد الوطني في منافسة غير متكافئة هي أقرب لشريعة الغاب, ولن يكون الاقتصار على الاهتمام بالحريات على أهميته, كاف ليقود الثورة إلى غاياتها, فإقامة نظام ديمقراطي قائم على العدل, يتوقف على القدرة في الانتقال من نمط تنمية رديء وفاسد إلى نمط تنموي منتج وخلاق وقوي, يقطع تدريجيا مع التبعية ومع كل فكر أممي بما في ذلك "الفكر الليبرالي المحدث" الذي يحاول بلا تمحيص وتدقيق تطبيق القواعد نفسها على كل أمم العالم. غاضا بذلك الطرف على خصائص كل واحدة منها.
انه من المؤكد أن تتوصل ثورة الحرية والكرامة إلى فرض نهجها الثوري بأقل الخسائر, وأن تتمكن من استعادة حقوق الأكثرية المغلوبة من امتيازات الأقلية الغالبة, بفعل الوعي الشعبي العميق بضرورة القطع مع منظومة وثقافة الفساد والتبعية بمختلف أشكالها, وامتلاك رأس مال رمزي وقيمي ايجابي وموارد متنوعة, والإيمان العميق بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية خارج الأطر التنموية المعلبة والجاهزة التي لا تراعي خصوصياته,فلا ثورة أو بناء ديمقراطي ما احتفظت الأقلية الغالبة بامتيازاتها, مهما اجتهدت القوى السياسية والنخب الثقافية المؤمنة بالثورة إلى دمقرطة السلطة.
[1] -الكاينسية نسبة الى رجل الافنصاد البريطاني "جون مينار كاينس" وهي نظرية اقتصادية ظهرت غي ثلاثينات القرن العشرين وسمحت لأول مرة بتدخل الدولة في الاقتصاد في إطار النظام الرأسمالي متجاوزة الليبرالية التقليدية المرتكزة على الحرية الاقتصادية المطلقة .