بيان حزب التحرير في ذكرى سقوط الخلافة
زووم تونيزيا
| الأربعاء، 6 مارس، 2013 على الساعة 02:50 | عدد الزيارات : 1164
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرى هدم الخلافة
تمرّ بالمسلمين هذه الأيام، ذكرى هدم الخلافة الإسلامية، وهي أشدّ…
لذكريات ألما، وأعمقها حزنا وأسى، وأكثرها أثرا فيما يعانون من ويلات، وما يُقاسون من شدائد.
فحين هُدّمت الخلافة وقُضي عليها تعطّلت أحكام الشرع، وأضحى الحكم بغير ما أنزل الله، وانتكست الأمّة الإسلامية بين الأمم، ودخلت الحضارة الغربيّة ديارنا بلا استئذان، فغزت أفكار الغرب عقولنا، واحتلّت المفاهيم الغربية أذهاننا، فضلّلتنا عن الحقائق، وأوهمنا الكافر المستعمر عبر مناهج التعليم التي أرساها في بلادنا أنّ الإسلام لم يُطبّق إلاّ فترة قصيرة، وأنّه مجرّد فكرة غابرة في أعماق التاريخ السّحيق، وأنّ الخلافة مجرّد وهم وخيال وهي في أحسن الظروف حلم جميل يستحيل وجوده على أرض الواقع، وأوغل في تضليلنا الفكري والسياسي حتى أخذنا تاريخنا من أعداء الإسلام المبغضين لنا ولديننا، فأخذنا الصورة المشوّهة، ونبذنا تاريخنا وحضارتنا وراء ظهورنا، وأصبح كثير من أبناءنا حربا على ديننا ومصدر عزّنا، وأصبحت العلمانية والدّيمقراطية والحريات الشخصية والنظام الجمهوري والدّولة المدينة وغيرها هي البديل عن الشّريعة وحكم القرآن.
أصبحت أفكار الغرب وثقافته هي المادّة التي تُحشى بها عقول أبنائنا، وأضحت شخصيته المثال الذي يُحتذى.
تمزقت بلاد المسلمين شرّ مُمزَّق، وتحولت من دولة واحدة تجمع الشّمل تحت راية واحدة إلى دويلات كرتونية متباعدة ومتناحرة ومتنازعة فيما بينها وتابعة للغرب، وسُمّي هذا التقسيم استقلالا، ورُمز له بخرق ذات ألوان سُمّيت أعلاما، وجُعلت مقّدّسة تُؤدّى لها التحيّة كلّ صباح وفي كلّ مناسبة بديلا عن راية العُقاب، راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصبحت هذه المصيبة - أي ما يُسمّى بالاستقلال - عيدا تُقام له الحفلات كلّ عام.
تَنَصَّب على كلّ رقعة حاكم عميل حريص على حراسة الحدود، أمين على مصالح أسياده المعتدين، حمل على الإسلام وأهله حملة شعواء، يذيق أبناء أمّته مرارة الجوع والفقر والعوز، يسومهم الخسف ويُريهم أشّد ألوان العذاب.
أصبحت ثروات المسلمين والخيرات التي حبا الله بلاد المسلمين بها في يد الحفنة الحاكمة، وتحت تصرّف أسيادهم المعتدين، وأصبحنا في حالة فقر وعوز وكنوز سليمان تحت أقدامنا، ناهيك عن مقدّساتنا التي اغتُصبت ودُنّست، ومحارمنا التي انتُهكت، فالقدس تبكي ولا بواكي لها، ومقام إبراهيم ينتحب ولا من مجيب، وحرائر المسلمين يستغثن، والمسلمون يُقتّلون ويُهجّرون ودماؤهم تسيل أنهارا، وحكّامنا ينظرون ويتفرّجون ويلهون ولا يحرّكون ساكنا.
المسلمون تنفطر قلوبهم في صدورهم، ويموتون كمدا وغيضا، والجيوش رابضة في ثكناتها كأنّ الأمر لا يعنيها!!!
هدّم الكافر المستعمر الخلافة الإسلامية بعد صراع مرير وطويل، لم يقو فيه على المسلمين إلاّ في الجولة الأخيرة حينما عمد إلى الخديعة، فاعتمد على بعض رعايا الدولة الإسلامية وهم يهود الدّونمة من اليهود الّذين نزحوا من إسبانيا إلى سالونيك في تركيا ودخلوا في الإسلام نفاقا، وكانوا يظهرون إسلامهم، ولكنهم يعملون في الخفاء ضد الإسلام والمسلمين، وكان مصطفى كمال الملقب بآتاتورك - أي أبو الأتراك - واحدا منهم كما أورد ذلك الكاتب الإنجليزي "هـ.س. أرمسترونج" في كتابه: "الذئب الأغبر"، نشأ ضابطا في الجيش العثماني ثم تدرج في المراتب العسكرية حتى أصبح يتولى قيادة الجيوش، وكان على صلة وثيقة بالإنجليز الذين كانوا يخططون لهدم الخلافة وتمزيق كيان المسلمين.
ومن دهاء الإنجليز وبراعتهم في الخداع أن حوّلوه إلى بطل في أذهان المسلمين، حيث كانوا ينسحبون بجيوشهم وجيوش عملائهم من المعارك التي كان يخوضها ضدهم، لتلميع صورته والعمل على سطوع نجمه في الأمة الإسلامية.
كانت الدولة الإسلامية تعيش حالة من الضعف الفكري والسياسي، وكانت أنظار المسلمين في مجموعهم تتجه نحو إصلاحها، لأنّ ذلك حكم شرعي فرضه اللّه عليهم، ولأنّها دولتهم على كلّ حال، فلما سطع نجم هذا الرجل، تعلقت به الآمال وانخدعت فيه الأمة، حيث تصورت أنّه منقذها ومعيد مجدها، وتجلى ذلك في موقف كثير من المفكرين والأدباء وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه اللّه تعالى، حيث شبّهه بخالد بن الوليد رضي الله عنه، وأسبغ عليه من الأوصاف في الفكر والخلق والسياسة ما لا يوصف به إلا منقذ هذه الأمة بحقّ.
يقول شوقي في قصيدته " انتصار الأتراك في الحرب والسياسة" يمدح مصطفى كمال:
الله أكبر كم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدد خالد العربِ
صلح عزيز على حرب مظفّرة
فالسيف في غمده والحق في النُّصبِ
يا حُسن أمنية في السيف ما كذبت
وطيب أمنية في الرأي لم تخبِ
وفي الانسحاب المدبر لجيوش الإنجليز الذي فات شوقي أن يدركه في حينه، يقول:
لما صدعت جناحيهم وقلبهمُ
طاروا بأجنحة شتى من الرّعبِ
جـدّ الفرار فألقـى كل معتقل
قناته وتخلى كل محتقبِ
يا حُسن ما انسحبوا في منطق عجب
تُدعى الهزيمة فيه حُسن منسحبِ
لم يدر قائدهم لما أحطت به
هبطتَ من صُعد أم جئت من صببِ؟
أخذته وهو في تدبير خطته
فلم تتمّ وكانت خطة الهربِ
نعم! "كانت خطة الهربِ"، و" انسحبوا في منطق عجبٍ" !!!، ولكن لا عجب، فهكذا يصنع الخونة والعملاء!
وفي انخداع الأمّة وافتتانها به، يقول:
وأرّج الفتح أرجاء الحجاز وكم
قضى الليالى ولم ينعم ولم يطبِ
وازَّينت أمّهات الشرق واستبقت
مهارج الفتح في المؤْشيّة القشُبِ
هـزَّت دمشق بني أيّوبَ فانتبهوا
يهنئون بني حـمدان في حـلبِ
ومسلمو الهند والهندوس في جَذَلٍ
ومسلمو مصر والأقباط في طربِ
ممالكٌ ضـمّها الإسـلام في رَحِمٍ
وشيجةٍ وحواها الشرق في نسبِ
مـن كلّ ضاحية ترمى بمكتحلٍ
إلى مكانكَ أو ترمى بمختضبِ
تقول: لولا الفتى التركيُّ حل بنا
يومٌ كيوم يهود كان عن كثبِ
ولكن عندما تمكّن هذا الخائن العميل، ووصل إلى السلطة، حوّل أمل الأمّة إلى سراب، واستحال فرحها إلى مأتم، فهتك عرضها وهدّم الخلافة، ثم أعلن الكفر البواح، وفصل تركيا عن العالم الإسلامي، بل وعمل على اجتثاثها عن كلّ صلة لها بالإسلام.
وبسقوط الخلافة، عاشت الأمة بمجموعها حالة من الدهشة والذُّعر والهلع الذي لم تكن له سابقة في تاريخها، إذ لم يكن يخطر بخلد مسلم أنّ الخلافة قد تزول يوما من الوجود.
عندها أدرك شوقي أنّه كان مخدوعا، فتدارك الأمر بالرّثاء والرّجل بالهجاء، فكانت قصيدته الرّائعة "خلافة الإسلام"، والتي قالها سنة 1924، والقصيدة غنيّة عن التّعليق، فهي تصف بدقّة فائقة، ورؤيا ثاقبة، حال الأمّة في ظل الخلافة، وما آلت إليه عند سقوطها، ومآلها الذي نحن اليوم فيه:
عادت أغاني العرس رجع نواح *** نعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه *** ودفنت عند تبلج الإصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك *** في كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر *** وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة *** تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس *** أمحا من الأرض الخلافة ماح
وأتت لك الجمع الجلائل مأتما *** فقعدن فيه مقاعد الأنواح
يا للرجال لحرة موءودة *** قتلت بغير جريرة وجناح
إن الذين أست جراحك حربهم *** قتلتك سلمهم بغير جراح
هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم *** موشية بمواهب الفتاح
نزعوا عن الأعناق خير قلادة *** ونضوا عن الأعطاف خير وشاح
حسب أتى طول الليالي دونه *** قد طاح بين عشية وصباح
وعلاقة فصمت عرى أسبابها *** كانت أبر علائق الأرواح
جمعت على البر الحضور وربما *** جمعت عليه سرائر النزاح
نظمت صفوف المسلمين وخطوهم *** في كل غدوة جمعة ورواح
بكت الصلاة وتلك فتنة عابث *** بالشرع عربيد القضاء وقاح
أفتى خزعبلة وقال ضلالة *** وأتى بكفر في البلاد بواح
إن الذين جرى عليهم فقهه *** خلقوا لفقه كتيبة وسلاح
إن حدثوا نطقوا بخرس كتائب *** أو خوطبوا سمعوا بصم رماح
أستغفر الأخلاق لست بجاحد *** من كنت أدفع دونه وألاحي
مالي أطوقه الملام وطالما *** قلدته المأثور من أمداحي
هو ركن مملكة وحائط دولة *** وقريع شهباء وكبش نطاح
أأقول من أحيا الجماعة ملحد *** وأقول من رد الحقوق إباحي
الحق أولى من وليك حرمة *** وأحق منك بنصرة وكفاح
فامدح على الحق الرجال ولمهم *** أو خل عنك مواقف النصاح
ومن الرجال إذا انبريت لهدمهم *** هرم غليظ مناكب الصفاح
فإذا قذفت الحق في أجلاده *** ترك الصراع مضعضع الألواح
أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح *** إن الجواد يثوب بعد جماح
إن الغرور سقى الرئيس براحه *** كيف احتيالك في صريع الراح
نقل الشرائع والعقائد والقرى *** والناس نقل كتائب في الساح
تركته كالشبح المؤله أمة *** لم تسل بعد عبادة الأشباح
هم أطلقوا يده كقيصر فيهم *** حتى تناول كل غير مباح
غرته طاعات الجموع ودولة *** وجد السواد لها هوى المرتاح
وإذا أخذت المجد من أمية *** لم تعط غير سرابه اللماح
من قائل للمسلمين مقالة *** لم يوحها غير النصيحة واح
عهد الخلافة في أول ذائد *** عن حوضها ببراعة نضاح
حب لذات الله كان ولم يزل *** وهوى لذات الحق والإصلاح
إني أنا المصباح لست بضائع *** حتى أكون فراشة المصباح
غزوات «أدهم» كللت بذوابل *** وفتوح «أنور» فصلت بصفاح
ولت سيوفهما وبان قناهما *** وشبا يراعي غير ذات براح
لا تبذلوا برد النبي لعاجز *** عزل يدافع دونه بالراح
بالأمس أوهى المسلمين جراحة *** واليوم مد لهم يد الجراح
فلتسمعن بكل أرض داعيا *** يدعو إلى الكذاب أو لسجاح
ولتشهدن بكل أرض فتنة *** فيها يباع الدين بيع سماح
يفتى على ذهب المعز وسيفه *** وهوى النفوس وحقدها الملحاح
لقد كان شوقي رحمه الله تعالى ناصرا للخلافة قبل وبعد سقوطها، امتدحها وبكاها ورثاها في خير قصائده بلكمات تحيّر البال، وتُحرّك الأشجان، وتُبكي كلّ من كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد:
غنيتها لحنا تغلغل فــي البكا
يا رب باك في ظواهر شادي
ونصرتها نصر المجاهد في ذرا
عبد الحميد وفي جناح رشاد
ودفنتها ودفنت خير قصـائدي
معها وطال بقبرها إنشـادي
"يا للرجال لِحرّة موءودة..."، "من قائل للمسلمين مقالة..."، "لا تبذلوا برد النبيّ لعاجز...، "إنّي أنا المصباح لست بضائع..."، هذه صرخات شوقي عن الخلافة، هذه الخلافة التي وعاها الشيخ تقي الدّين النبهاني رحمه الله تعالى، فيما وعى، فأقام لها حزبا شامخا عمّت اليوم أصوات رجالاته، وصدى حناجر أنصاره، الشرق والغرب: "أمّة واحدة، راية واحدة، حرب واحدة"، "خلافة على منهاج النبوة".
فهل يعي بقية المسلمين اليوم مقالة شوقي ودعوة حزب التحرير، ويحسون بهذه الصرخات المدوية فيُجمعون أمرهم صفّا، ويحيلون المأتم إلى عرس، ويبذلون برد النبيّ لرجل منهم، ويصنعون الحدث الذي يعم صداه أرجاء المعمورة!؟، أم هل يظلون "فراشة المصباح" وتظلّ الصرخة مدوّية: "يا قومي مالي؟ ويا قوم من لي!؟" حتّى يأذن اللّه يحكم وهو خير الحاكمين.
فتحي المرواني
22 من ربيع الثاني 1434
الموافق 2013/03/04م