ونشرت جريدة "المغرب" في عددها الصادر اليوم السبت، 18 جوان 2016، وثيقة تحتوي النص الكامل لمبادرة السبسي، وقد جاء فيها ما يلي :
1-تشخيص الوضع :
تعيش تونس منذ وقت ليس بالقريب ازمة حقيقية ذات ابعاد مختلفة تجعل من واجبنا الوقوف عليها.
على الصعيد السياسي تعالت منذ مدة اصوات العديد من مكونات المشهد السياسي سواءا كانت احزابا في الحكم او كانت خارجه داعية الى الانقاذ. ودعمها في ذلك مواقف مشابهة للمنظمات.
على الصعيد الاقتصادي تمثلت الازمة في محدودية المنتظر من الوضع القائم في ظل النقص الفادح للاستثمارات الاخلية والخارجية وضعف فرص التشغيل.
- الجانب السياسي :
لقد دخلنا في الفترة الماضية مرحلة من التشكيك تميزت برفض الاعتراف بوجود مكاسب وطنية من قبل عديد الاطراف وهو خطاب بعيد عن الواقع المجحف فقد حققت تونس نقلة نوعية على مستوى الحريات الفردية والجماعية وخاصة حرية التعبير والصحافة والحريات السياسية والاعلامية انتقلنا بفضلها من دولة الحزب الواحد والراي الواحد الى دولة الاراء المتعددة والاحزاب المتنوعة ومن نظام سلطوي الى نظام ديمقراطي يمارس فيه الشعب سيادته عبر صناديق الاقتراع وهو ما فرز لاول مرة في تاريخنا رئيسا منتخبا انتخابا حرا ومباشرا في انتخابات حرة وشفافة اعترف الجميع بمصداقيتها.
كما افرز برلمانا تعدديا يمثل كل الحساسيات الفكرية وهو لفضاء الاصلي الذي من المفترض ان تمارس من خلاله كل الحوارات وتدار فيه كل الخلافات والاختلافات ويصوت فيه على القوانين.
وقد كان للبعد الاجتماعي اهمية بالغة تجدست في امضاء اتفاقية السلم الاجتماعي المبرمة بين الحكومة والاطراف الاجتماعية وباشراف رئيس الجمهورية وحصلت بمقتضاها زيادات هامة في الاجور رغم قلة الامكانيات وصعوبة الظرف الاجتماعية.
ورغم كل هذا فان سلوك العديد من الاحزاب لم يعد منسجما مع مقتضيات المرحلة اذ نجد ان التشكيك متواصل وهنالك من يتحدث عن تراجع في الحريات الاعلامية بينما لدينا 85 جريدة ،44 اذاعة و14 قناة تلفزية واكثر من 80 موقع الكتروني وجميعها لها الحرية في اختيار البرامج والضيوف المواضيع ولم تتدخل السلط يوما في شانها وهنالك من لامنا في ذلك، ولم تشتك رئاسة الجمهورية مرة واحدة أي صحفي رغم وجود تعد لحدود اللياقة وهنالك من يتهمنا بالعودة لاساليب الاستبداد في حين اننا ضامنون لحق الجميع في التعبير عن الراي بحرية والتظاهر بسلمية ولكن في حدود الحفاظ عن الامن القومي وتطبيق القانون الضامن الوحيد للحريات والديمقراطية.
وهنا اريد ان اتعهد امام الشعب التونسي صاحب السيادة انه لا عودة الى الوراء لا تراجع عن الحريات ولا مجال للعودة الى الاستبداد، لكن وجب علينا جميعا ارساء سلوك جديد للتعامل بين مختلف الاحزاب ينبني على الاحترام المتبادل بين الاغلبية ولاقلية ويكون بمستوى النظام الديمقراطي الذي تم ارساؤه تبتعد بمقتضاه الاقلية هن منطق المواجهة والتصادم كما تراعي فيه الاغلبية المواقف المتباينة وذلك بالاستماع والحوار والاقناع بعيدا عن منطق المغالبة. ويبقى البرلمان الفضاء الامثل للحوار السياسي.
- الجانب الاقتصادي :
وهذا التمشي الديمقراطي لا يمكن له النجاح بدون ارساء دولة القانون من اجل حماية المكاسب وتحسين مقدرات الدولة في الانتاج الذي بدونه لا يمكن لنا الإستجابة لمطالب التشغيل لقد قامت الثورة من أجل الحرية والكرامة ولا كرامة بدون شغل لائق.
اليوم ورغم أننا حققنا الحرية والديمقراطية ولكن ذلك يبقى مرتبطا بقدرتنا على تحقيق الكرامة للشعب وللجهات المحرومة والشباب المهمش الذي قام بهذه الثورة وهو يشعر اليوم بإحباط شديد نظرا لأنه بدل أن يتحصل على شغل نجد أن نسبة البطالة قد ازدادت سواء بالنسبة لأصحاب الشهائد العليا أو غيرهم وقفزت من 13% في 2010 الى 15.4% في 2015 وهذا غير مقبول وقد يفسر ذلك بخصوصية الفترة الإنتقالية وصعوباتها ولكن اليوم لا عذر لنا وعلينا القيام بإجراءات عاجلة للخروج من هذا الوضع.
وأول هذه الإجراءات إعادة النسق الطبيعي لعجلة الإنتاج فمن غير المعقول أن يكون إنتاج الفسفاط سنة 2015 في مستوى انتاج عام 1928 حيث كان يجري العمل بالوسائل البدائية وخسائرنا في هذا القطاع منذ 2011 فقط حوالي 5000 مليون دينار وهو ما يعادل القرض الأخير الذي صادق عليه صندوق النقد الدولي.
للأسف فمظاهر تعطّل الإنتاج ليست في الفسفاط فحسب بل في العديد من القطاعات الحيوية مثل الغاز والبترول، وما يحصل في هذا القطاع لا يمكن السكوت عنه، إذ أنه لم يتم حفر سوى 8 آبار في 2015 في حين أنه تم حفر 38 بئرا في 2010 وهذا يكلف الدولة خسائر كبرى فبدل أن يغطي الإنتاج 93% من استهلاكنا، نراه لا يغطي سوى 55% منه ومع هذه الخسائر الفادحة شهدنا زيادات هامة في الأجور وانتقلنا من حوالي 6700 مليون دينار في 2010 الى 13000 مليون دينار في 2016، وهي زيادة بحوالي 92% في حين أن الميزانية لم ترتفع سوى بـ55%.وهو ما جعل الدولة غير قادرة على الإيفاء بواجباتها تجاه العاطلين لتشغيلهم أو بفتح الآفاق أمامهم.
أولويات المرحلة المقبلة :
هذه الخسائر تعود أساسا الى عجز الدولة وقد كنت أشرت اليه في خطاب 20 مارس 2016 وأكدته في حواري التفلزي ليوم 2 جوان 2016 وهذا الوضع متواصل ولا يجب أن يستمر خاصة وأن انعكاساته السلبية أثرت على مقدرات الدولة في مجالات الإستثمار والتشغيل وهي أهداف أساسية تندرج ضمن أسس الأمن القومي التونسي ونحن نعلم جميعا أن الفقر والتهميش وغياب الأمل لدى شرائح واسعة من المجتمع من شأنه أن يساعد الإرهابيين على استقطاب الشباب والتغرير بهم ودفعهم الى صفوف أعداء الوطن.
الحرب على الإرهاب :
لقد أعلناّ الحرب على الإرهاب دون هوادة ولقد نجحت قواتنا المسلحة في عمليات استباقية كثيرة وارتفعت جاهزيتها وكان هذا بفضل الإرادة السياسية والرفع من الإعتمادات الموجهة لهم بحوالي 4000 مليون دولار أمريكي، وبفضل العزيمة الكبرى المتوفرة لديهم. غير أنه لا يمكن حسم هذه المعركة الا بإرساء دولة القانون التي تتمثل في احترام المواطنين للدولة وإنهاء حالة التسيب وقطع الطرقات ومنع الناس من العمل وغيرها من مظاهر الفوضى.
كما تتجسد دولة القانون في المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وأول هذه الحقوق، الحق في الشغل اللائق وفي العيش الكريم وهنا يكمن دور الدولة في تحسين ظروف المواطنين في المناطق المهمشة التي لا توجد فقط في الجهات الداخلية، ففي تونس العاصمة هناك أحياء كبرى مهمّشة وهي ذات كثافة سكانية عالية.
إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحليّة :
علينا ايلاء المدن والأحياء الكبرى أولوية خاصة تتجسد في إرساء سياسة واضحة للمدينة تجعل من كل المناطق فضاء مريحا للإستثمار والعمل والعيش والترفيه، اذ لا يمكن لمدينة أو منطقة أن تشهد نقلة نوعية في وضع متساكنيها المزري بدون وجود مرافق لائقة من مدارس ومعاهد ومستوصفات وكذلك دور سينما ومسارح ومكتبات عمومية في محيط نظيف، وهذا من أبرزم سمات الشعوب المتحضرة.
وإذا كانت محاربة الإرهاب أولى أولوياتنا حيث أنه يشكل تهديدا لكيان الدولة التونسية. ونحن ماضون في العمل من أجل تدمير الجماعات الإرهابية، فإننا لا يمكن أن ننتصر عليه بدون اعتماد منوال تنمية جديد يشعر فيه التونسيون بالإنتماء لهذا الوطن ويبتعد فيه الشباب عن شراك المجموعات الإرهابية وتنتج فيه الثروة في أغلب ربوع البلاد.
دفع التنميــــــــــة :
وإذا كان مخطط التنمية الذي تم اعداده عنصرا مهما فإنه يبقى غير كاف والإنتظارات أكبر بكثير وهو شيء مفهوم يجعل من واجبنا مزيد السعي من أجل جلب الإستثمارات الخارجية ودعم الإستثمارات الداخلية والتشجيع عليها والحد من تفاقم ظاهرة التجارة الموازية وهذا يتطلب تمتين الثقة بين الدولة والقطاع الخاص وهو ليس مجرد شعار يرفع ولكن جملة من الإجراءات العاجل اتخاذها على المستويين التشريعي والتطبيقي.
مقاومة الفســــــاد :
أول اجراءات دعم الثقة بين الدولة والمواطن من جهة، والدولة والمستثمرين من جهة أخرى هو بلوغ أعلى درجات الشفافية والحوكمة الرشيدة وهذا يحصل بمقاومة الفساد وإعلان الحرب عليه، وما وجود هيئة دستورية مكلّفة بمكافحته الا إبراز لإرادة الدولة في هذا المضمار، ولكن يبدو جليا أن هذا الإرجاء غير كاف.
والجميع يردد أن الفساد استشرى في مختلف مجالات الحياة، وهذا ليس بجديد في تونس فقبل 14 جانفي تحدثت منظمات دولية تعنى بهذا الشأن وأكدتت أن تونس تخسر سنويا 2 نقاط في معدل التنمية بسبب الفساد وكان ترتيب تونس 65 في 2010 ولكن الفساد كان موجودا في أعلى هرم الدولة والمنظومة التابعة لها ولكن اليوم أعتقد أن الفساد استشرى على كل المستويات وأصبح ترتيب تونس في هذا المجال 76 مما أضر بالبلاد والثروة والديمقراطية. ولذا وجب التصدي له وذلك عبر الإسراع في سن مشاريع قوانين حماية المبلّغين عن الفساد وتعميم التصريح بالمكاسب لمسئولي الدولة والتصدي للإثراء غير المشروع وكذلك عبر القيام بتدقيق شامل لتقارير هيئات الرقابة والتدقيق للأربع سنوات الأخيرة على الأقل، لكن هذه الإجراءات لن تكون كافية بدون مشاركة المواطنين والمجتمع المجدني في هذا المجهود إذ لا يمكن الإنتصار على هذه الآفة وهي مدمرة للأوطان تماما كالإرهاب. الا بتظافر وانسجام الدولة والمواطن ولإن نتائجها تعود بالفائدة على الجميع، فخسارة نقطتين أو ثلاث في نسبة النمو يعني خسارة ما بين 30و45 ألف موطن شغل، وهذا غير مقبول، دون اعتبار الأموال التي لم تدخل خزينة الدولة جراء الفساد والتي كان من الممكن توجيهها للإستثمار في مشاريع تعود بالنفع على المجموعة الوطنية.
تبسيط الإجراءات الإدارية :
ولتأمين النجاح في مقاومة الفساد، لا بد من الإنخراط الواسع من طرف الإدارية التونسية، التي وإن أثبتت صلابتها وجدواها وحمت الدولة من الإنهيار إبان ثورة 14 جانفي ، الا أنه تم انهاكها في السنوات الأخيرة وهي اليوم تستحق العناية بها وإدخال اصلاحات عميقة عليها. فمدخل الإسراع بالإنجازات وتحقيق الأهداف هو تبسيط الإجراءات الإدارية وتعميم الإدارة الإلكترونية.
إن الوضع الصعب الذي نعيشه اليوم يفرض علينا وضع هذه الأولويات نصب أعيننا والعمل الجاد على تحقيقها في أسرع وقت ممكن، وهذا يتطلب تظافر كل الجهود ويفترض وجود لحمة بين الفاعلين السياسيين من جهة والمنظمات الوطنية الكبرى والمجتمع المدني ووسائل الإعلام من جهى أخرى وهنا أذكر بأنه وحدها الوحدة القومية بعد الإستقلال هي التي مكنت تونس في ذلك الوقت من الخروج من الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد وأؤكد لكم أنها كانت أصعب بكثير من الوقت الراهن والشعب لم يكن متعلماوعلى درجة من الوعي التي يتميز بها اليوم.
فتح آفاق :
أعتقد أن فرص نجاح تونس لا تزال متوفرة وهي لم تتحقق الى حد الآن، لأنه لم يتم تحديد الأولويات المشتركة بين البرلمان والحكومة من ناحية وكذلك لغياب انخراط شامل في برنامج مشترك من طرف المنظمات والأحزاب والحكومة، وعليه يصبح اليوم من الواجب قيام حكومة وحدة وطنية تتميز عناصرها بالكفاءة والنزاهة والتناغم لضمان نجاعة أدائها بعد أن يصادق البرلمان على أولوياتها آنفة الذكر.
إن الوحدة الوطنية التي ترتكز على أهداف مشتركة وآليات عمل واضحة قادرة على الإسراع في الإستجابة لإنتظارات المواطنين وإعادة الأمل لهم وهي تضمن الإنخراط الواسع لكل الفئات الإجتماعية والشعبية في البرامج المحددة سلفاـ وبإمكانها تذليل الصعوبات الماثلة أمامنا، مما يحتم علينا البدء في حوار واسع مع كل الاطراف المنخرطة في هذا التوجه، والمتبنية لهذه الأرضية.