سياسة

المصالحة الوطنية ..محاذير و شروط و الإشكال يكمن في التفاصيل

علي عبد اللطيف اللافي | الخميس، 2 أفريل، 2015 على الساعة 17:00 | عدد الزيارات : 5464
كثرت في المدة ألأخيرة المقالات و البرامج والجدل حول المصالحة الوطنية وضرورة نسيان و تجاوز الماضي والحديث عن المستقبل وان كان جميع التونسيين بأحزابهم ومثقفيهم، لا يختلفون أبدا في ضرورة إجراء المصالحة الوطنية للإقلاع وبناء أسس الجمهورية الثانية، فإن عددا من الأسئلة تطرح نفسها بإلحاح و أولها: بأي طريقة ستتم هذه المصالحة ومتى تحديدا؟ ثم أي علاقة لتلك المصالحة مع أهم ملف بعد الثورة إلا وهو العدالة الانتقالية وهل هي قفز على الملف وتغييب مسرحي له؟، ومن ستشمل وبكل دقة وهل سيقع القفز على المحاسبة وملف

 تدمير الالفاظ وسط أفكار ورؤى متعددة للمصالحة الوطنية

يطرح الساسة والمحللين بشكل يومي ومنذ أسابيع أفكار ورؤى لموضوع المصالحة الوطنية. لكن ما نلحظه أن منطق أو رياضة إغتصاب المصطلحات واختطاف المعنى أصبحت رياضة "وطنية" لدى جزء كبير من نخبتنا "الوطنية" على حد عبارات المدون والمغترب كمال عزيزة، وما يلاحظ أن نخبتنا أسقطت مفاهيم وتعمدت إفساد معاني "الوفاق" و"التوافق" و"التنافس" بعد رج مفاهيم الديمقراطية والثورة والشرعية وتذيل هذه المصطلحات بل والسياسية أيضا بعد أن جرمت اثر مؤتمر المصير في بنزرت الذي انتهت أشغاله سنة 1964 إلى توافق فئوي حزبي على مقدرات الوطن يأتي اليوم الدور على المصالحة والعدالة الإنتقالية التي يريدها البعض مصالحة على مقاس الجلاد لا تُؤذي "مشاعره" ولا "ثروته" ولا "مصالحه" على مصالحة وطنية على مقاس الوطن وعدالة إنتقائية لا تغوص في محاكمة فعلية للمنظومة القديمة وتدمر آليات الفساد فيها ولا الأساطير المؤسسة لدولته، بل أن البعض يحاول اختزال المصالحة في جبر ضرر مجموعة من المناضلين الذين تضرروا أضرارا بليغة جراء سنوات من التعذيب والسجن والملاحقة وبالتالي حصرها في مجموعة محدودة من المناضلين السياسيين والحقوقيين وعائلاتهم كما يحاول "عرابو" هذه المصالحة من جهة أخرى اختزالها في تعويضات مالية وإجراءات جبائية لا تساءل الخيارات الكبرى لدولة الاستقلال التي حاصرت أنفاس التونسيين لمدة 56 سنة ...

 المحاذير الأساسية في التعاطي مع موضوع المصالحة الوطنية

لن يطمئن التونسيون أبدا للدولة و سيبقون متوجسين منها خاصة في ظل تزايد نفوذ الدولة العميقة والثورة المضادة، ولن يحصل الاطمئنان التام إلا إذا تحققت أهداف الثورة في حدها الأدنى ووقع قطع أشواط في استكمال مهامها، وان كان لا خلاف في أن تحقيق بعض الأهداف واستكمال بعض المهام لن يتم إلا بمصالحة وطنية تحقق العدالة الانتقالية بعيدا عن منطق الانتقام ولن يحصل ذلك الاطمئنان إلا إذا راعت الحكومة والأحزاب والمنظمات المحاذير التالية:

أ‌- تغير العقيدة الأمنية

لا شك أن نظرة المواطنين بعد الثورة وخاصة ضحايا مرحلة الدولة البوليسية أي عمليا ضحايا المؤسسة الأمنية لدولة الاستقلال، قد تغيرت وأصبحت النخب المعارضة سابقا تفصل بين المؤسسة الأمنية باعتبارها مُكلفة بتوفير الأمن وبسطه وحماية البلاد والعباد ولكن البعض يعترض قائلا "أن المؤسسة الأمنية ليست مجموع أشخاص أو أعوان تشتغل لصالح أمن النظام فقط بل هي مؤسسة تستبطن عقيدة معينة تجاه العديد من القضايا التي تهم الوطن" ، وهو ما يؤكد أنه لا معنى لتغيير في الأشخاص وإعادة الهيكلة تحت مسميات جديدة وأسلوب ورسائل جديدة ترسل للمجتمع، بل يجب أن يتم م مراجعة العقيدة الأمنية للبوليس التونسي بمختلف فرقه و أعوانه و مسؤوليه كما لابد أن تختفي مجموعة من المصطلحات على غرار "الإرهابي" و"المجرم" و"المواطن عدو الدولة" و"عدو النظام" و "إبن الدولة والمجتمع والنظام"، كما لابد من طرح سؤال: ما الهدف من المؤسسة السجنية؟ و هل هي مؤسسة لتطويع المواطن وكسر إرادته أم هي مؤسسة لإعادة التأهيل؟ وهل السجن مطلوب لذاته أو وسيلة لإدراك غايات ما؟ وكل المتابعين والمحللين يؤكدون أنه لابد قبل الحديث عن المصالحة الوطنية يجب الحسم في الأسئلة والمقدمات التي تعرف العقيدة الأمنية وعلى ضوئها وجب مراجعة مناهج التدريب الخاصة بالوحدات الأمنية والسجنية والخاصة بمؤسسات تابعة للمؤسستين الأمنية والعسكرية لتتلاءم مع الوضع الثوري والانتقالي ويقع بناء عقيدة جديدة مقنعة، مما يمكن فعليا من صناعة أجيال أمنية جديدة بغض النظر عن المسميات رغم أهميتها (أمن جمهوري أو أمن نظام أو أي اسم آخر).

ب‌- ما الفائدة من مقايضة المحاسبة مع فاسدين ومتموقعين آنيا

من أهم المسائل الحيوية التي يجب الحذر منها هو تداخل المالي بالسياسي في تونس، فلا نريد في تونس أن ننتقل من دولة الحزب الواحد والفكرة الواحدة والزعيم الواحد إلى ديمقراطية رجال أعمال على غرار المنوال الروسي أي دولة "تحكم من قبل أولغارشية تسعى لتأبيد سيطرتها على الثروة عبر التحكم في السلطة دون مساءلة حقيقية عن مصادر ثروتها ولا إرجاع لما نهب" خاصة ,انه يراد من طرف بارونات الدولة العميقة أن نُقايض رجال أعمال فاسدين عادوا بطرق ملتوية بل وتموقعوا عمليا وآنيا أكثر من شباب صنع الثورة وبنى ملحمتها البطولية ولا يمكن عمليا تحويل سُراق وأصهار وحاشية إلى أنهم رجال أعمال يطرح المصالحة معهم...

ت - محاسبة أصحاب القرار منذ 1955

فإذا كان البيروقراطي والتكنوقراطي و كل أعوان الدولة وإدارييها أداة تنفيذ فإن السياسي هو الذي نظر وخطط وأعطى الأوامر و غطى على الجرائم بل واستفاد منها عمليا على امتداد عقود، وقد تم خلط الإداري بالسياسي الحزبي وتحولنا من دولة الشعب التي ناضلت أجيال وأجيال من أجل نشوئها إلى شعب للدولة المافيوزية و البوليسية...، و يحاول البعض إقناعنا بأن المحاسبة السياسية قد فات أوانها وأن أي حديث عنها أصبح مستهلكاً بل الصحيح أن النظام لم يسقط وأعاد تجديد خلاياه و يحاول العودة بأكثر قوة وفتوة ولكن الأمر الواقع لا يمكن أن يقفز على حقائق الأشياء ويصادر المطلوب بالضرورة إنجازه للمرور إلى جمهورية ثانية حقيقية، ثم أنه لا يجب أن يقع التغاضي عن ملفات كبرى على غرار ملف القناصة والأجهزة الأمنية غير الرسمية في العهدين الأسبق والسابق وطرح ملفات أحداث كبرى على غرار أحداث الوردانين، و أيضا الإجابة على أسئلة على غرار من اغتال صالح بن يوسف ومن خطط ومن نفذ مع عبدالله الورداني وزرق العيون، و من أغتال السحيمي و الحسين بوزيان و ما حقيقة تسميم المهيري؟، و ما هي قصة الشيخ العيادي ومن اغتال الصادق الهيشري وفوزي السنوسي وغيرهم كثير؟، ومن دبر حادثة الطائرة في 2002 ومن خطط للتخلص من الجنرال القطاري سنة 1989؟

 الشروط الموضوعية للمصالحة الوطنية

وبناء على ما سبق ذكره من محاذير لا غنى في الانتباه إليها بل أن التغافل عنها يعني أن المصالحة الوطنية الحقيقية لن تحدث وستبقى حديث وحبر على ورق أما من حيث الشروط فهي موضوعيا وعمليا:

أ‌- إن المصالحة الحقيقية هي طي الماضي الذي أنتج مآسٍ للجميع من قبل النظام السابق ،والتي تمثلت في الاغتيالات وعمليات التعذيب في مراكز الأجهزة الأمنية والسجون، وعمليات الخطف و التعدي والمداهمات والانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان، ولا شك أن البدء بصفحة جديدة يجب أن يشارك فيها الجميع في عمليّة البناء، فقد عرفت تونس 56 سنة من القمع و الصراعات العنيفة، و انتفض الشعب في مرات عدة وقام بثورة على المخلوع وحزبه وحاشيته و أيضا ثار على إعلامه المدجن والمادح، وآن الأوان لطيّ صفحة الحروب الداخليّة، والبدء ببناء الجمهورية الثانية وبناء دولة الشعب أي دولة الحق و القانون على أساس العيش المشترك، بعد أن تأكد للجميع إلى "أن حركة الصراع، مهما تطوّرت، فإنّها لا تقبل إلغاء أيّ طرف لآخر،أو حذفه من الدائرة المشتركة.ثم إنّ مشكلة المصالحة الوطنية في تونس ،لا تزال تصطدم بالخطاب السياسي،وغيرالسياسي،الذي لا يزال سلطويا ً قمعيا ً يغلّب مصلحة السلطة و الطبقة الحاكمة على مصلحة البلد،وغرائزياً يسحق العقل لمصلحة الغريزة، ومصلحيّاً يغلّف النفعيّة الذاتيّة الحزبية الضيقة بغلاف القيم، ومتكاذباً بصيغ أكثر حضاريّة من الماضي.."

ب‌- في التاريخ فكرة ومنهاج وبالتالي فإن طي صفحة الماضي لا يعني إلغاءها من ذاكرة التونسيين و والدفع نحو منطق كأنّ شيئاً لم يكن هو ضرب في الخيال ومحاولة يائسة من تجمعيي الأمس والمرسكلين اليوم وسط أحزاب عديدة وفي مواقع نفوذ حالية، فيُصبح فيها أبطال القمع و انتهاك حقوق الإنسان وكأنّهم كانوا أبطال البناء، ومرتكبو الجرائم قضاةَ العدل، وناشرو الفساد مصلحي البلاد والعباد.. كلاَّ. إنّ طي الصفحة لا بدّ أن يقوم على الاعتراف بكل حرفٍ ورد فيها، وتقويم كلّ ذلك على أساس القيم التي يُراد البناء عليها للمستقبل.وذلك يعني أن نعترف بالجرائم كما هي التي ارتكبها النظام السابق في حق الشعب التونسي ، وكذلك الوقوف وراء الأخطاء القاتلة للحكومات المتعاقبة بعد الثورة ، وبالأوصاف كما كانت في إعلام وخطاب دولة الاستقلال المستبدة والظالمة، وبالأحداث كما حصلت تماما ،من أجل مواجهة الحقيقة ولا شئ غيرها،حتى يمكن أن نتحدث لاحقا عن العفو الشامل الذي نصّ عليه دستور 27 جانفي 2014 كما لابد من ربط ذلك بإعادة كتابة تاريخ معاصر لتونس بعيدا عن منطق تاريخ المجاهد الأكبر أو صانع التغيير، كما على الدولة أن تقدم إعتذارا ًرسميا ً لشعبها ،وتصرف تعويضات لضحايا ذلك القمع والإرهاب والتعذيب والمنافي وللذين حرموا من حقهم في السفر والتقاضي والدراسة الجامعية بناء على انتماءاتهم الفكرية والسياسية.

ت- إن المصالحة الحقيقية هي التي تفسح في المجال للشراكة بين السلطة الحاكمة و المعارضات السياسية ،الذي يفترض التباين البنيويّ في الخيارات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية و المجتمعية،بين النخب الحاكمة و القوى السياسية الطامحة إلى التغيير على قاعدة التداول السلمي للسلطة، وهو ما يعني عمليا إعادة هيكلة الحقل بل المجال السياسي والذي يجب أن يعكس موضوعيا المصالحة الوطنية العادلة وغير الانتقامية...

أي مصالحة يمكن ان نلتق جميعا حولها؟

وبناء على ما سبق من ذكر للمحاذير واستعراض للشروط الموضوعية فان كل مواطن يتمنى أن يقع الدفع نحو مصالحة وطنية حقيقية تلمس جوهر القضايا وتتناسب مع مشاغل الناس طوال العقود الماضية وان لا تتحول إلى تسويات بين كبار القوم وأصحاب رؤوس الأموال المكدسة من خيرات تونس وشعبها الأبي والصامد، ولا يمكن القبول بلملمة الملفات الثقيلة مما يعني آليا المرور بالسرعة القصوى لاحقا لتثبيت نظام لا يختلف عن سابقه إلا في القشور أي إعادة ترتيب نهائي لبيت الدولة البوليسية...، فالمصالحة الوطنية هي ملك للشعب بكامله فئاته وأحزابه ومنظماته، أي أنها ملك عمومي لا ملك خاص لزيد أو عمر أو قيادة حزبية تُقامر به كما تُريد وتُساوم بها...

و عندئذ يعكس مشروع المصالحة الوطنية ولادة حراك سياسي جديد يقود حتماً من خلال ديناميكية الصراع الثنائي بين الحاكم والمحكوم الذي أدرك معنى الحكم ومضمونه، وصولا "إلى كسر السكون والأحادية القديمة والطويلة اللذين سمحا بإعادة إنتاج السلطة الاحتكارية والانفرادية من دون تغيير لعقود طويلة بقدر ما مكن الطبقة الحاكمة من الجمع في قبضة واحدة بين السلطة السياسية والاقتصادية والرمزية.فهذا الجمع هو الذي مكن النخب الحاكمة من احتكار التعامل بالشأن العمومي وتحويل المجتمع بأكمله إلى مجموعات مصالح اقتصادية ومهنية مستقلة يقف دورها عند الشأن الخاص" ، وبقدر ما فعلته دولة الاستقلال بالمجتمع عبر عقود حيث حرمته من تكوين رؤية شمولية أو وطنية تعني بالمصير العام ومصير الأمة العربية والإسلامية، كما جرمت السياسة أمامه وجعلته أقرب للإنبتات و جعلت مصير الوحدة المجتمعية معلقاً بين يدي الطبقة- الدولة وحدها على حد عبارة الدكتور توفيق المديني، بل أن ذلك تم تحت جبة الحداثة المزيفة أو ما أسماه البعض بالاستبداد الحداثي المتعسف على المجتمع....

 

 

كلمات مفاتيح :
المصالحة الوطنية