زووم | مقال رأي توقفت كثيرًا أمام التعبيرات والمفردات التي استخدمها السيسي في حديثه للصحفيين في 6 يوليو 2014،…
ين قال إن رفع أسعار الوقود خطوة هامة "تأخرت 50 عامًا".
وهو ذات المضمون الذي ورد في تسريب سابق من أحد لقاءاته مع قيادات عسكرية، حين قال فيه بالنص الصريح: "إن السلعة يجب أن تباع بثمنها الحقيقي، وأنه منذ ما حدث في 1977 وجميع الرؤساء والحكام والقادة يخشون تكرار هذه القرارات".
إن في حديثه نوعا من التفاخر وكأنه يقول "أنا وحدي الذي استطعت أن أتخذ هذه القرارات التي جبُن من قبلى على اتخاذها".
ولم يكن ينقصه إلا أن يطلق صيحة النصر الشهيرة.
ثم ما فتئ يكرر ذات المعنى في كل كلمة أو خطاب له بعد ذلك، وآخرها خطاب انقطاع الكهرباء في 6 سبتمبر 2014
لا أدرى لماذا وصلني المغزى وكأنه يوجه رسالة "شماتة" إلى الشعب المصري الذي انتفض في 18 و 19 يناير 1977 غضبا على قرارات السادات والقيسونى بزيادة أسعار السلع، وهى الانتفاضة الشعبية التي أرغمت الحكومة على التراجع عن قراراتها وإلغائها بعد مرور 48 ساعة على اتخاذها، وكأنه يوجه إليه رسالة يقول فيها «ها قد عدنا يا شعب يا نمرود».
وهو ما ذكرني، مع الفارق، بالجنرال الفرنسي هنري غورو الذي ذهب إلى قبر صلاح الدين بعد احتلال سوريا في 1920، وقال في شماتة ((ها قد عدنا يا صلاح الدين))، وكأنه أراد أن يأخذ بثأر السادات والحكومة والنظام، التى انكسرت إرادتها أمام الإرادة الشعبية منذ 37 عاما، وكأن الدولة لا تنسى ثأرها أبدا تجاه كل من يتحدى إرادتها وهيبتها وقراراتها، حتى لو كان منذ عقود طويلة.
هذا هو موقف الدولة الحقيقى، موقفها القديم الجديد الثابت الذى لم يتغير، تجاه الشعب وانتفاضاته ونضالاته للحفاظ على حياته وحقوقه، نظرة الشرطي إلى المجرم، أو السيد إلى العبد أو ملوك العصور الوسطى إلى رعاياهم نظرية "أنا القانون والقانون أنا" وأنا الهيبة والسيادة والسيد، لى السلطة والثروة والسلاح والسيطرة والنفوذ والمصائر، ولكم الخوف والطاعة... بلا حقوق، بلا حريات، بلا ديمقراطية، بلا كلام فارغ.
هكذا تنظر إلينا الدولة ونظامها ورجالاتها، وبين الحين والآخر تصدر زلة لسان من هنا أو من هناك تفضح جرثومة الاستبداد والعنصرية تجاه باقي خلق الله .
سبق للسيسى نفسه أن عبر عن ذات المعنى عدة مرات :
قالها مع ياسر رزق فى التسريب الشهير، حين صرح بأن البديل المدنى غير مطروح فى مصر لعشر أو 15 عاما قادمة.
وكررها كثيرا فى إظهار استيائه من مصطلح "الانتخابات" الرئاسية، والتى كان يسميها "بالاستدعاء"، استدعاء الشعب له لقيادته، فهو أكبر من أن ينافس أو يتنافس.
وقالها مرة أخرى فى حديثه مع الصحفيين المشار إليه أعلاه، حين حذر من انتخاب معارضة تضايقه، وحذر من انهيار الدولة إذا لم يكن هناك برلمان أليف.
ثم أطلق رجاله يسعون في الأرض لتأسيس تحالفات انتخابية تأتيه ببرلمان طيع ومريح ومتعاون.
وحين تعثرت المفاوضات البرلمانية، أطلق أنصاره اقتراحا لجس النبض بتأجيل الانتخابات البرلمانية، أو إدخال تعديلات على الدستور تعيد قبضة رئيس الجمهورية على البرلمان ومجلس الوزراء، بحجة أن ظروف مصر الآن لا تحتمل أن يضايق أحد الرئيس أو يناهده.
إلى الدرجة التي جعلت السيسى في خطاب انقطاع الكهرباء في 6 سبتمبر الماضي، يعتب على الإعلام لأنه انتقد الحكومة بسبب انقطاع الكهرباء، محذرا من أن ((النقد بيوتر المسئولين وبيخليهم يغلطوا فى شغلهم))!!
ومن قبله قالها مبارك مرات متعددة في مأثوراته الشهيرة : (أنا أو الفوضى) و (خليهم يتسلوا)، ورددها السادات كثيرا من قبلهما: شرذمة/ أخلاق القرية/أنياب الديمقراطية/ أهو مرمى فى السجن زى الكلب ـ بعد اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة.
وقالها مدير أمن البحيرة أيضا أثناء الثورة، حين قال ((لازم يعرفوا مين أسيادهم)).
وقالتها حملة دعم السيسى حين وصفوه بالدكر، وكأن الشعب المصرى يحتاج "فتوة" ليؤدبه ويلمه، فى محاولة لإحياء نظرية الكرباج الشهيرة.
وقالها جهاز الشرطة حين دخل فى إضراب صامت غير معلن عن العمل بعد ثورة يناير، لإدخال الرعب فى قلوب المصريين، فى رسالة ضمنية معناها بأنكم لن تستطيعوا ان تعيشوا وان تأمنوا على أنفسكم بدوننا. فإياكم أن تقتربوا منا مرة أخرى، أو أن تذكروا كلمة التطهير على ألسنتكم.
وقالوها بعد الثورة فى عشرات المذابح للمتظاهرين والمعتصمين ومشجعي الكرة منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، ومارسوها بكثافة منذ حادث الحرس الجمهوري وما تلاه.
وفى سيارة ترحيلات ابو زعبل، التى لم يعاقب عليه أحد حتى الآن.
ويقولوها فى الأقسام والسجون كل يوم للمعتقلين بالضرب والتعذيب.
وفى سيل الأحكام القاسية العاجلة بالإعدام والمؤبد للمئات.
مقابل سيل البراءات لكل قتلة الثوار والمتظاهرين منذ 25 يناير، الذين لا يزالوا طلقاء لم تمس شعرة منهم.
وقالتها الدولة حين عصفت بكل ثوار يناير، لا فرق فى ذلك بين خصومها وبين حلفائها فى 30 يونيو، ولا بين إسلامي ومدني.
وتقولها كل يوم حين تغضب على أي معارضة، فتنطلق ماكينتها الجهنمية لشيطنتها بلا هوادة أو رحمة.
يقولوها ويمارسوها ليل نهار تحت عنوان كبير أنه ((لا أحد فوق الدولة ))، لا أحد فوقنا، نفعل بكم ما نشاء بلا قانون أو رقيب أو تعقيب، فنحن الدولة.
تبقى لي ملاحظة ضرورية على تصريح السيسي عن الدعم، وهى حول ما قاله مؤخرًا في اجتماعه الثاني بالصحفيين فى 24 أغسطس 2014 من ان ((الدعم اخطر من الفساد !!))، وهو قول غريب وضعيف وشديد التهافت، فالفساد "جريمة" لا يجوز مقارنتها بغيرها من التوجهات أو السياسات الاقتصادية، وهو جريمة نهبت مصر وأفقرتها ألف مرة ومرة، كما أن الفساد يسرق الناس، أما الدعم فيعطيهم قليلا من حقوقهم وأموالهم. والفساد يقتلهم، والدعم يحييهم. أن الدعم هو تعويض قليل وتصبيرة بسيطة للعباد، عن سياسات الرأسمالية والخصخصة والفساد فى البلاد. كما أن مصر هى الشعب ومعايش الناس، و ليست أرقاما وإحصائيات في الميزانيات.
ولكن أكثر ما أزعجنى، فيما لو صدق ظني في مغزى رسالته إلى شعب يناير 1977، وفى أن الدولة رغم تغير ورحيل المسئولين والقيادات والوزراء، لم تنس ولم تغفر لنا أبدا انتفاضة الخبز، فكم يا ترى من السنوات أو العقود ستحمل وتبطن الدولة رغبتها فى الثأر من ثورة يناير وثوارها.
ربنا يستر على مصر وأهلها.