بصورة مفاجئة وغير متوقعة لأكثر المراقبين انحرف زخم العمليات العسكرية التي تقوم بها (دولة البغدادي) من…
لجنوب إلى الشمال، ومن (حماية السنة من المليشيات الصفوية) إلى مهاجمة المنطقة الوحيدة الآمنة لأهل السنة في كل العراق! وسرعان ما تداعت الأحداث بعد هذا الانحراف، فالطيران الأميركي يقصف الموصل، وعودة التنسيق والتعاون الأمني والعسكري بين أربيل وبغداد بعد أن كان المالكي يتهم أربيل بإيوائها لإرهابين!
في خضم هذه التغيرات كان البغدادي لا يتورع أيضا عن تهجير المسيحيين واليزيديين، ويهدم المساجد التاريخية أنها تضم قبورا ومزارات (وثنية)، إنه يطلق النار بكل الاتجاهات وبآن واحد! ولا شك أن هذه التصرفات أسهمت بتأليب الرأي العام العامي، وأيقظت لدى المجتمع السني نفسه مخاوف سابقة كان قد آثر السكوت عنها حتى تنقشع غمة المالكي ومليشياته.
لماذا انحرفت بوصلة البغدادي باتجاه كردستان؟
في مقالة سابقة على جريدة "العرب" القطرية ذكرت بالنص: (أن مشروع البغدادي ليس الدفاع عن أهل السنة وأعراضهم كما يروج بعض الدراويش، وإنما هو لبناء دولة، وهو مستعد في سبيل هذه الدولة أن يقاتل كل من يقف في طريقه شيعيا كان أو سنيا، إسلاميا أو علمانيا، عاما أو جاها، مجاهدا أو قاعدا، الهدف محدد وواضح، والوسيلة محددة وواضحة كذلك).
لقد حاول بعض دعاة (المشروع السني) أن يضفوا على تحركات (البغدادي) عنوانا يقربهم منه أو يقربه منهم، فها هو البغدادي يطرد (جيش المالكي) من مدينة الموصل بطريقة مذلة ومهينة، وهذه لوحدها تكفي لكسب قدر لا يستهان به من التعاطف بعد أن أوغل هذا الجيش في دماء أهل السنة وأعراضهم، وغالب هؤلاء ليسوا في وضع يمكنهم من تحليل الأحداث وتمييز العناوين، ما فعله البغدادي بجيش المالكي ومليشياته يكفي مهما كانت النتائج أو المقدمات!
أما (المشروع الوطني) فقد حاول أن يستفيد من (مشروع الدولة) رغم التباين الحاد أيديولوجيا وسياسيا، حتى وصل الأمر بقائد البعث عزة الدوري أن يثني على الدولة والقاعدة في خطابه الأخير وبالأسماء! لكن الدولة لم ترد التحية، بل جاء تفجير جامع النبي يونس ردا مستفزا لعقيدة الدوري شخصيا مع ما فيه من تجاوز صارخ على مشاعر غالبية المجتمع العراقي، كما أن إعلان الخلافة لوحده هو نسف لشرعية الدوري التاريخية باعتباره يمثل آخر حكومة وطنية قبل الغزو الأجنبي.
هناك أيضا بعض الواجهات الدينية والمجتمعية والتي تبنت خطابا ضبابيا، فتراهم يمجدون (الثوار) ويتحدثون عن إنجازاتهم في الموصل وغيرها، ويحاولون تجنب ذكر البغدادي ودولته وخلافته، بل هناك من بالغ في التقليل من شأنه، وهذا كله مفهومة دوافعه ومقاصده، لكنهم أسهموا في صناعة الفوضى وعدم القدرة على فهم الواقع أو التنبؤ بمآلاته، فكل عمل مسيء تقوم به الدولة هو عندهم (إشاعة) تروجها أبواق المالكي، فإذا تأكد الخبر أو تبنته الدولة رسميا صار (خطأ بشريا) لا يغير من المعادلة الكلية، لكن تراكم هذه الأخطاء خاصة في مدينة الموصل إلى حدود كردستان أصبح يهدد مصداقية هؤلاء، وصار الناس يتساءلون أين هؤلاء الثوار من كل هذا؟! ولماذا يسمحون بتفرد الدولة بالقرار الكامل في كل هذه المناطق (المحررة)؟ إن النتيجة المنطقية لهذا النهج هو أن هؤلاء سيكونون بين خيارين اثنين، إما الاعتراف بالحقيقة وأنهم ليس لهم علاقة بهذا الميدان، وإما إعلان تأييدهم مشروع (الدولة).
حقيقة أن البغدادي لم تنحرف بوصلته، لكن المتعاطفين معه والذين حاولوا توظيفه مشاريعهم المتباينة (السنية والوطنية والثورية) هم الذين أوهموا الناس بوجود بوصلة له تتناسب مع مشاريعهم هم وليس مع مشروعه هو، فالانحراف جاء عن بوصلاتهم وليس عن بوصلته.
إن بوصلة البغدادي تعتمد على بناء دولة توسعية (باقية وتتمدد) على حد تعبيرهم، ولكي تبقى فهي بحاجة إلى القوة والمال، ولكي تتمدد فهي بحاجة إلى معرفة الأراضي الرخوة التي يمكن أن تتوسع فيها، بغض النظر أن تكون هذه الأرض في سوريا أو العراق، في الموصل أو أربيل، عند الشيعة أو عند السنة، ضمن المناطق المقسمة أو ضمن المناطق المتنازع عليها.
إن السيطرة على سد الموصل (الماء) والسيطرة على منابع النفط (الكلأ) جاء بعد امتلاك (السلاح) من مخازن الجيش، وهذه الثلاثة هي دعائم (الدولة) في نظر البغدادي، أما بغداد فهي مجازفة بالنسبة له، وما عنده اليوم لا يؤهله للسيطرة عليها مع ما فيها من تناقضات وملابسات، إلا إذا قبل أن يكون جزءا من مشروع تحرري واسع، وهذا معناه أن يلغي دولته وخلافته وبوصلته.
إن الدول التاريخية ومنها الإمبراطوريات الكبرى تشكلت كلها بهذه البوصلة (باقية وتتمدد)، وغني عن التذكير أن (دولة الخلافة الأخيرة) قد بدأت بإمارة صغيرة في الأناضول اسمها (إمارة آل عثمان) ثم توسعت هذه الإمارة لتصبح أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ.
إن البغدادي لا شك أنه مسكون بذلك التاريخ، وهيئته يوم تنصيب نفسه خليفة تؤكد هذا بقوة، لكنه ربما قد فاته أن الزمن لن يرجع إلى الوراء، وأن التاريخ لن يعيد نفسه كما يتمنى المتمنون أو يحلم الحالمون، وأن الخلافة التي ننتظرها ستأتي ولكن بصورة أخرى قد لا تخطر على بالنا نحن الذين نعيش في هذا العصر، وأخشى ما نخشاه أن تتحول هذه الأحلام إلى أدوات فاعلة وقوية لكنها ليست مشاريعنا نحن المظلومين بل مشاريع أولئك الظالمين.
أما أولئك الذين يظنون أن بإمكانهم تركيب مشاريعهم فوق مشروع البغدادي، أو الركوب في قاربه للوصول إلى بغداد أو البصرة! فإنهم واهمون، وعليهم أن يعيدوا حساباتهم قبل أن يجدوا أنفسهم وقودا في حروب عبثية لها أول وليس لها آخر.
إن البغدادي لا يعنيه وضع أهل السنة في بغداد أو كردستان، ولا في سوريا أو إيران، إنه لا يتورع عن ضرب السنة قبل الشيعة إذا كان هذا يساعده على (التمدد)، ولذلك كانت أولوياته في بسط هيمنته على المناطق المحررة في سوريا مع ما فيه من طعن للثورة وسفك للدم.
المصدر: صحيفة العرب