مقاﻻت رأي

الاعلام ، السلطة الاولى بين التطور الرقمي و التلاعب بالعقول

زووم تونيزيا | السبت، 14 جوان، 2014 على الساعة 19:00 | عدد الزيارات : 1325
إن التحول العميق الذي شهدته حياة الإنسان في العصر الحديث، اعترى مختلف المستويات والجوانب، فلم يكن الإعلام…
منأى أو منجى من ذلك، بقدر ما كان العنصر الأكثر حظا من ذلك التحول، كيف لا؟ وقد كان نفسه طرفا مشاركا وفعالا في تحول العالم وتبدله، فلم يعد الحديث عن الإعلام باعتباره مجرد آلية لتوصيل الخبر، وإنما بوصفه قوة لازوردية تؤثر بشكل سحري في الجمهور، ومن ثم تساهم في تشكيل أفهامهم وتوجيهها، كما أنه لم يعد الحديث عن الصحافة باعتبارها سلطة رابعة، وإنما سلطة أولى! على هذا الأساس، فإن مفهوم الإعلام توسع أكثر، فاقتصرت تعريفاته اللغوية والاصطلاحية العتيقة على المعاجم والبحوث الأكاديمية التقليدية، أما الدراسات الإعلامية الحديثة، فلا تلتفت إلى تلك التعريفات المستهلكة، بقدر ما تربط مفهوم الإعلام بالواقع المعاصر، وما يعتريه من أحداث ومستجدات سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية، مما سوف يجعل مفهوم الإعلام يتخذ دلالات جديدة تحيل على السلطة والقوة والتأثير والهيمنة والسيطرة وغير ذلك. فصاحب كتاب (المتلاعبون بالعقول) هربرت أ. شيللر، يفسر في مقدمة الكتاب، كيف يتحول الإعلام من جهة أولى، إلى عملية تضليل، ومن جهة ثانية إلى أداة قهر وقمع! فعندما "يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول، ذلك أن الأفكار التي تنحو عن عمد إلى استحداث معنى زائف... ليست في الواقع سوى أفكار مموهة أو مضللة!". ثم "إن تضليل عقول البشر هو، على حد قول باولو فرير، "أداة للقهر". فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى "تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة". وقد توقف المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه (السيطرة على الإعلام)، عند جانب الدعاية المضللة للإعلام، فرأى أن مواجهة تمرد القطيع/الشعب في الدولة الشمولية أو العسكرية يتم بسهولة تامة، إذ "فقط عليك أن تمسك بهراوات فوق رؤوسهم، وإذا خرجوا عن الخط ما عليك إلا أن تحطم تلك الهراوات فوق رؤوسهم، ولكن في مجتمع أكثر ديمقراطية وحرية، فقدت هذه الوسيلة، فعليك إذن اللجوء إلى أساليب الدعاية والمنطق، فالدعاية في النظام الديمقراطي هي بمثابة الهراوات في الدولة الشمولية، وهذا أمر يتسم بالحكمة". أما المفكر المغربي د. المهدي المنجرة، فيدرك بعمق أن مفهوم الإعلام هو أكبر مما تحدده المعاجم، فهو حسب فهمه "المادة الأولية للمعرفة باعتبار أن المعرفة إعلام قد تم تركيبه وتأليفه حسب تصور معين"، وقد أصبح الإعلام يتجه حاليا إلى تحويل مجتمع الإنتاج الصناعي إلى مجتمع إعلام ومعرفة، فترتب عن ذلك أنه صار "مصدر تفاوت وتسلط سياسي وتفوق عسكري وهيمنة اقتصادية وثقافية. في خضم هذه الرؤية، نشأ وعي بأن الاستمرارية السليمة، لا تتحقق في العصر الحديث إلا للأمم والشعوب التي تملك إعلاما متوازنا وقويا، وهذا الإعلام لا يتشكل فجأة، وإنما ينبثق من تراكم علمي ومعرفي، يشهد بتجارب وإنجازات سابقة مهدت تدريجيا لنشأة هذا الإعلام القوي . ان الاعلام باختلاف وسائله بات أخطر سلاح على وجه الأرض فلا يضاهيه في خطورته النووي أو الكيماوي، حيث انه يكفي ان يضغط ابناءك على زر التلفزيون أو الحاسوب أو الهاتف الجوال المربوط بخدمة الانترنت و هم في غرفة نومهم سيجدون أمامهم ما كنت أنت (الاب) تربيهم على تركه و الابتعاد عنه أيام و أشهر طويلة. الافلام الكارتونية وحدها تعيد صياغة مخيلة ووعي الاطفال بالوجود و الكون و العالم، فبمجرد متابعتهم اليومية مثلا لتوم و جيري ستتكرس في اذهان صغارنا فكرة الصراع الدائم في الحياة و صعوبة التعايش السلمي بين الكائنات الموجودة على وجه البسيطة . و يكفيك ان تسمع الخبر الكاذب و التحليل المعتل عشرات المرات في اليوم منذ ان تستيقظ و تفتح أمواج الراديو و أنت تعد فطور الصباح الى اخر اليوم و أنت تشاهد حوارا اعلاميا متشنجا مرورا بالعناوين الكبرى المكتوبة على الصفحات الاولى من الجرائد المنتشرة على حافتي الطريق دون التغافل عن الاعلام الالكتروني الذي صار ملازما للانسان في هاتفه الجوال و في المكتب و المدرسة و البيت، فتجد نفسك مقولبا و خاضعا لهذه الهرسلة الاعلامية الشرسة و ممتلئا بأكاذيبها و اخطاءها القاتلة . لا يمكن انكار ان سلطة الاعلام صارت اقوى السلط، اذ اخترقت الانسان و عوالمه الخاصة دون اذن أو ترخيص و صارت تستحكم في اختياراته و اذواقه و هاهي هذه المنظومة الاعلامية المتطورة و اللامحدود تتجاوز سلطتها و نفوذها نطاق الفرد لتتحول أداة من ادوات استقرار الدول او هلاكها كماهي أداة من أدوات الديمقراطية و وسيلة من وسائل الاستبداد في ذات الوقت، فالمسألة تتعلق بمن يقف وراء الاعلام و لأي أهداف سيوجه هذه الالة الاعلامية. ان التكنولوجيا محايدة و لكن من يقف وراءها ليس محايدا و لن يكون على الاطلاق .... بعد ان كان الاعلام وسيلة من وسائل الاخبار و نقل المعلومات تحول الى مطبخ تصنع فيه الاخبار و المعلومات و يقع توزيعها بشكل محكم بين الاوعية المتفرقة و المترابطة ليخلص الى صناعة الرأي العام أو تزييف الوعي و توجيهه أو التحكم في العقول و الاراء و الاهواء . كانت المسألة في البداية مرتبطة بالسوق و الاقتصاد و الاستهلاك، حيث يكون الاعلام أداة طيعة في ايادي الشركات الاقتصادية الكبرى التي تحدد و تكيف اﻷذواق كيفما تشاء، و لا يكون المنتوج خاضعا لاختيار و ارادة المستهلك بقدر ما يخضع المستهلك للتوجيه و التنميط . و ما ان ينزل المنتوج الى السوق تتهاطل عليه الزبائن من كل حدب و صوب ليس بفعل الحاجة و أنما بفعل الهرسلة الاعلامية_التسويقية و التلاعب بالعقول . ساروي حادثة اخبرنيها صديق سوداني و لكن هي متكررة في جميع الدول و الأسواق . احدى شركات اللباس السودانية ارادت تحقيق نسبة مبيعات عالية ذات سنة في سراويل الفتيات فقامت بعقد صفقة مع احد المخرجين السينيمائيين لكي ترتدي بطلات المسلسل الرمضاني "و ما ادراك ما الرمضاني" هذا المنتوج أثناء التصوير مع التركيز على السروال . و بعد بث حلقات معدودة من المسلسل قامت الشركة بانزال السراويل الى السوق فلم يبقى منها شيء و حقق أصحاب الشركة ارباحا ضخمة . هكذا هي الأمور و هذا هو دور الاعلام في التسويق و توجيه الاهواء، و كذلك يتعلق الأمر بما يسمى بالموضة، فهو أساسا عملية صناعة للذوق البشري . و العجيب في الأمر ان المستهلكين يستعجبون في بعض المواسم اقبالهم على نفس "الماركة" أو نفس الالوان و الاشكال .. يا للغباء.... اما اليوم و في عصر الجيولوحيا السياسية لم يعد التوجيه الاعلامي حكرا على أصحاب الاقتصاد و المال و أنما تعدى ذلك ليصبح ركيزة أساسية في العمل السياسي و صناعة الرأي العام .   فبامكان بعض السياسيين ان يتعاقدوا مع بعض الوسائل الاعلامية في اطار الصفقات المالية او السياسية المصلحية لتتجند للترويج لفكرة او اجندة سياسية ما او لتنخرط هذه الاوعية الاعلامية بمختلف اشكالها في حملات ضخمة سواءا كانت انتخابية او احتجاجية او حتى انقلابية كما حصل في مصر . ان التدخّل السياسيّ المستمر في توجيه الرسالة الإعلامية والقرار الإعلامي وخاصة في دولنا العربية، خلال العقود الأولى بعد نيل معظم الدول العربية استقلالاها، السمة الغالبة على هذه المهنة، التي جعلت دور وزارات الإعلام في بعض النماذج العربية الشمولية جزءا من الدور العسكري والأمني وحتى الاستخباراتي للأنظمة السياسية العربية ويقول روس هاورد Ross HOWARD من المعهد الكندي للإعلام والعلوم السياسية والمجتمع المدني IMPACS، أنّ الرسالة الإعلامية قد حوّلت الإعلام إلى أكثر القوى نفاذا وتأثيرا في العمليات السياسية، وعلى رأسها العملية الانتخابية. و ان اسوء التاثيرات التي يمارسها الاعلام هو تزييف وعي الجماهير و بالتالي تحريف خياراتهم. "و هذا ما يحدث في الانظمة المستبدة و الديمقراطية على السواء، و لكن تختلف وسائله و اساليبه و درجة فجاجته او وقاحته من مجتمع لاخر، فبينما يكون في الانظمة المستبدة بشكل سلطوي غاشم يمجد ارادة الفرد و يرفعه الى مصاف الالهة نجده في الدول الديمقراطية نجده يحدث من خلال الة اعلامية هائلة التاثير تقوم بعمل غسيل مخ للناخب و توجهه الى حيث تريد من خلال التاثير على افكاره ورؤاه" . من كتاب علم النفس السياسي ص 115 للدكتور محمد المهدي .. رؤية مصرية عربية .. القاهرة مكتبة الانجلو الممصرية 2007 . كما يجب لفت نظر القارئ الى قضية مهمة و هي استخدام بعض العلوم من اجل تطويع و تركيع الجماهير او الراي العام و ليس فقط توجيهه . لقد كان علم النفس ببعض تفريعاته و اهتماماته كعلم النفس الجماهيري و سيكولوجيا الجماهير و المجتمعات عنصرا اساسيا في فهم اصحاب النفوذ و شبكات السياسة و المال الاخطبوطية طبيعة الجماهير التي شبهها البعض بالوحش الذي يزار من الاسفل و من ثم تتوفر الفرصة للتحكم اكثر في العقول و الاهواء و التلاعب بالمواقف و الاراء الشعبية . "ان سرعة تاثر الجماهير و سذاجتها و تصديقها لاي شيء عن طريق التحريض او العدوى النفسية و قابليتها لاحياء و تفعيل الغرائز الاكثر بدائية فضلا عن انتهازية اغلب المحرضين و الزعماء و حساباتهم الدنيئة و مكيافيليتهم السياسية " مهدت الطريق امام وسائل الاعلام لكي ينقلب عن دوره الاساسي و يتحول الى اداة لتخريب العقول و الاوطان احيانا . 16 غوستاف لوبون علم نفس الجماهير . كما لا ننكر امكانية ان يكون الاعلام رافدا من روافد البناء الديمقراطي و الحس الوطني المسؤول، الا ان خضوع هذه الالة تحت سيطرت اصحاب النفوذ المالي و السياسي جعلها تجنح غالبا لماهو اضيق من البعد الوطني و لا يتجاوز مصلحة بعض الفئات و المجموعات الاقتصادية و السياسة التي ليست بالتاكيد من صنف الجماهير المفقرة و الشعبية .