بقلم : مهنا الحبيل
في مايو/آيار 2013 التقيت في واشنطن عددا من الشباب العربي الخليجي ذوي الاهتمام بمستقبل…
لحريات والدولة الدستورية والإصلاح السياسي من الداخل في دول الخليج العربي، وكانت أسئلة الربيع العربي لا تزال طرية تناقش في صراع التيارات السياسية القائم، ولم تطرح حينها قضية سقوط الربيع الدامي في بعض دوله كمصر، أو تعثره في دول أخرى كليبيا.
كان الجيّد في هذه اللقاءات أنها تضم توجهات عدة، وفي زمن الثورة التكنولوجية والإعلام الجديد، فإن هذا الصعود الثقافي العربي لا يمكن تأطيره في تيارات كبرى كالتيار الإسلامي أو القومي أو اليساري أو الليبرالي في قالب واحد، فهناك تفصيلات داخل هذه التيارات تخلق فوارق واضحة بين قناعات أفرادها، وهو ما يجب التأكيد عليه في حديثنا في هذا المقال عن علاقة التيار القومي بالحصاد السياسي الدامي والأمني لنقض الربيع العربي، وأن هناك استثناءات لم تتورط من ذات التيار.
ولم يكن الحديث عن هذا الربيع السياسي المضطرب في حينه، ولكن كانت أجواءه حاضرة كعادة حكايات الشباب العربي في مقاهي المهجر القديم وفضاء الحرية البعيد، لكن شابا من أبرز جيل القوميين الجدد في الخليج ومن أوسعهم فكرا وجدلا، أخذني جانبا وقال ضاحكا وبلهجة أهل الخليج "أستاذنا الكريم، خف على القوميين شوي"، أي ارفع قلمك الناقد عنهم.
وكان هذا الشاب يُشير إلى بعض الملاحظات النقدية اليسيرة التي كنتُ أؤكد عليها بضرورة المراجعة النقدية لمسيرة وثقافة القوميين العرب، وأن محاكماتهم للإسلاميين في حينها باتت ترتد من جديد بعد مخاض واسع للحركة الإسلامية المعاصرة، تقدمت فيها مراحل في النقد والمشاركة السياسية الثقافية في المجتمع بعد أن أفادت من النقد الذاتي، الذي شمل تيارات من المدرسة السلفية، في حين لا يزال القوميون في مستوى بعيد عن أُفق النقد الشامل من الجذور إلى التجربة.
ومن مايو/آيار 2012 حتى يوليو/تموز 2013 وتمكن الانقلاب في مصر من حسم الأمور وإسقاط ثورة 25 يناير، بات الجواب على السؤال المحترم أو استنكار صديقنا الشاب يهطل من كل صوب وناحية، فأين كان القوميون العرب في هذا الفصل؟ وكيف كانوا في ثورة مارس/آذار السورية الجريحة؟ وأين يقف المعيار الديمقراطي عندهم؟
ومع أن هذا الشاب وزميله نجحا في تحرير موقف ديمقراطي من الحدث المصري، فإن قضية مشاركة التيار القومي في حصار وإسقاط ربيع القاهرة لا تؤخذ من مواقف فردية نبيلة، ولكن من مجمل مواقف التيار.
لقد كانت المشاركة القومية في نقض الربيع المصري أصيلة، وإن هُمّش بعض أركانها مؤخرا خضوعا لقواعد اللعبة التي رسمتها المجموعة والخطة العسكرية المشير السيسي، ولسنا هنا في صدد العودة إلى سؤال البيضة والدجاجة ومسؤولية الإخوان عن الفشل السياسي الذي حررناه في كتاب مستقل، ولكن القضية هي مواعظ التيار القومي وجلده العتيق والحديث للإسلاميين وعجزهم عن المشاركة الديمقراطية، وهو اليوم يعتلي أو تعتليه البزة العسكرية و"البيّادة" لإسقاط كامل المشروع والفكرة الديمقراطية في الربيع المصري.
إن ترسانة الشراكة من أ. محمد هيكل حتى حمدين صباحي، وبينهما ترسانة ثقافية وصحافية مخضرمة وجديدة من قوميي مصر أيدوا الإسقاط العسكري للثورة، يخرج بنا إلى نتيجة مهمة: هي أن الترس القومي كان شريكا في رفض المواءمة الديمقراطية بين التيارات السياسية المختلفة، ورفض الصعود بالتجربة الديمقراطية، كما رفض التيار تحييده انتخابيا مقابل فرصته للصعود مع القوة العسكرية إلى منصة الحكم.
وعودة المشير السيسي لتصفية بعض الجماعة القومية التي لم تلتزم بتأييده مطلقا، وانسحاب د. وحيد عبد المجيد ود. حسن نافعة وغيرهما بعد أن نافحا عن قرار إسقاط الثورة لا يُلغي أهمية الضرورة القصوى لدراسة موقف هذا التيار القومي العربي من أصل الحريات الدستورية حين لا يكون غالبا فيها، أو يصعد على سدتها خصمه الإسلامي، وقد جرى لثورة الشام مواقف مماثلة ضدها من بعض قوميي بلاد الشام ومن قوميي القطر المصري.
وهناك نموذج صارخ لأحد أقلام النداء القومي في المهجر العربي بعد أن باع صحيفته الأولى، وأنشأ أخرى مستمطرا ميزانيتها من نفط الخليج الذي كان يعيّر به خصومه الفكريين، وتوسع في كتابته لخدمة الممول حتى دوّن مرافعة لصالح القيادي السابق في فتح المدعوم من تل أبيب محمد دحلان في مواجهة رئيس السلطة أبو مازن ضمن صراع المصالح الشرس في حركة فتح ما بعد أوسلو.
إن مجموع هذه المواقف والانحيازات السياسية جاءت بحصيلة مركزية مؤثرة لموقف القوميين العرب من الديمقراطية والحريات السياسية، وإن إحدى الإشكاليات المركزية في تربية القوميين هي تأسيس وتنمية فكرة أن القومي العربي هو في مقام كرسي المرشد الأعلى للمثقف العربي، وأن رسالته هي نقد الآخرين والاستعلاء على ذكريات هذا الإرث القومي، الذي لم يُفكك ولم يُنقد ديمقراطيا، ولم تُستخلص منه تجارب الوعي العربي الحديث.
إن فكرة هذا المرشد الذي لا يلتفت للوراء، ولا يُجيب عن أسئلة الكوارث الإنسانية التي عاشتها المنطقة العربية عبر تجارب حكم عديدة ناصرية وبعثية ويسارية قومية، ثم في حركة الثقافة النقدية لإرث القوميين العرب أمام المعيار الديمقراطي، تُظهر هذا الفراغ الضخم الذي يُصدّر للأجيال النخبوية عادة دون تحريك آلة النقد والتفكير إلاّ في التيارات الأخرى.
ومع وجود مواقف ومدونات ذات نضج وحيادية ونزعة إصلاحية لمشروع الحريات العربي، فإن هذه الاجتهادات تبدو كأنها تُقذف فوق طاولة مبعثرة مهلهلة الأقدام سرعان ما تقع في حصاد قومي متجدد مخيب للآمال.
إن أسئلة القوميين العرب الموجهة عبر مركز دراسات الوحدة العربية للتيار الإسلامي عن موقفه من الديمقراطية بحاجة اليوم أن توجّه بشجاعة إلى القوميين العرب أنفسهم عن مناقضتهم الأعراف والمفاهيم الديمقراطية وتأييدهم عملية النقض الدامي للربيع العربي أو شراكتهم فيه.
إن السؤال المركزي يتحتم أن يُجيب عن أسباب وقوف القوميين العرب مع نقض الربيع العربي؟ ولماذا انسحبوا في حصاد آخر عمليات الإسقاط، وما دوافع الاحتفال في الثالث من يوليو/تموز 2013؟ ومسببات الصمت المحبط بعده بأشهر؟ ومن المسؤول عن هذه النتائج التاريخية في حركة الديمقراطية العربية المعاصرة، وأن تُدون هذه التجربة النقدية لأجيالهم وفكرهم؟ وهو الفكر الذي سيظل له حضور، وإن كانت التجربة العنيفة التي واجهها الإسلاميون سجلت لهم حضورا نضاليا ديمقراطيا زاد في رصيدهم الشعبي من جديد.
لقد عانى المشهد الثقافي العربي من حركة حصار وتنحية للمشاركة الثقافية في بناء العهد الديمقراطي الجديد من خارج قبائل القوميين العرب، ومن الظلم أن ننسب ذلك إلى كل التيار والشخصيات المعتدلة.
والحقيقة أن المصالح المادية والنزعات الشخصية للأفراد لهما دور كبير في كل التيارات، لكن يبقى سؤال المرشد الأعلى الوهمي للمثقفين العرب يطرح أمامه: من أين لك هذا؟ ولماذا صنعت في أولئك ما صنعت؟ وما الحكم الديمقراطي في إرثك القديم والجديد؟