مقاﻻت رأي

في الثّورة والتّنوير

زووم تونيزيا | الأحد، 27 أفريل، 2014 على الساعة 16:27 | عدد الزيارات : 853
بقلم : أنور الجمعاوي يعتقد بعضهم أنّ الثّورة كانت حدثاً عفويّاً، وعملاً انفعاليّاً، وفعلاً عابراً تجسّد في…
ورةٍ اعترت محمّد البوعزيزي ذات يوم، بسبب ضيمٍ اعتراه في أعماق سيدي بو زيد، فانتفض وشعبُه على السّلطة، وكان ذلك سبباً في اندلاع حركة الاحتجاج في بلاد العرب. يبقى هذا التّوصيف، على أهمّيته، في التّأريخ الآنيّ للظّواهر الاجتماعيّة، سطحيّاً، لا يتجاوز الظّاهر إلى الباطن، ولا يتعدّى الإخبار إلى التدبّر. فتشخيص الحالة الثوريّة، وقراءتها المتأنّية، يُخبر أنّ العقل الاحتجاجي تشكّل عند العرب المعاصرين، عبر عقود، وأسهمت في بنائه عدّة معطيات، لعلّ أهمّها فشل ما يُسمّى الدّولة الوطنيّة، والتي ظهرت بعد الاستقلال، في تحقيق آمال الشّعوب العربيّة في الحرّية والعدالة والتنمية والكرامة، واستئثار الزمرة الحاكمة بدواليب السّلطة، وأسباب الثّروة، ما أدّى إلى اتّساع الهوّة بين الحاكم والمحكوم، وشعور المواطن بالغبن، لأنّه كان لا يشارك في الشّأن العامّ، بل كان لا يملك قراره، ولا يملك مصيره، ولا يُتعامل معه باعتباره كائناً فاعلاً، وإنّما باعتباره كائناً تابعاً للسّلطان، خادماً للحزب الحاكم. وكان الخروج على تلك النمطيّة الاستبداديّة مؤدّياً، لا محالة، إلى ما لا تُحمد عقباه، فمُعارض الأنظمة العربيّة الشموليّة مخيّرٌ بين القتل أو الأسر أو النّفي أو الملاحقة الأمنيّة والبوليسيّة بأشكالها المتعدّدة. من هنا، كان الإحساس بالظّلم شكلاً من أشكال الوعي بالقمع، وحافزاً من حوافز الاحتجاج، والرّغبة في الانفلات من إسار المستبدّ، من حين إلى آخر. فشهدت البلاد العربيّة، بعد الاستقلال، عدّة انتفاضات قطريّة جزئيّة، سرعان ما وُئدت تحت وطأة العسكر، في غياب تغطية إعلاميّة واسعة، ورأي عالمي مساند للمنتفضين على الدّولة القامعة (أمثلة: احتجاجات تونس 1978 ـ 1984/ أحداث حماه في سوريا، 1984/ أحداث الجزائر، 1989/ العراق: أحداث قمع تظاهرات الأكراد والشّيعة). زاد هذا الإرث القمعي في تعميق الأزمة بين الحاكم والمحكوم، حتّى بلغت العلاقة بين الطّرفين مستوى القطيعة المعلنة، أو غير المعلنة، فتزايد عدد معارضي الأنظمة الشموليّة في الدّاخل والخارج، ونشأ وعيٌ سياسيّ راغب في التّغيير، توّاق إلى فكّ أغلال الدّولة القامعة، وبناء الدّولة الدّيموقراطيّة العادلة. ومن المهمّ، هنا، التّنبيه إلى أنّ تشكّل الوعي بضرورة الثّورة أسهمت في إنتاجه نُخَب سياسيّة فاعلة، وشخصيّات فكريّة عربيّة مستنيرة، فمَن تَعَلْمَنَ أو تأسلم، ومَن اتّخذ القوميّة مذهباً، أو الماركسيّة تصوّراً، أو الليبراليّة منهجاً، كان يتّخذ من الأيديولوجيا سبيلاً للتّفكير، وطريقاً إلى التّغيير، وإطاراً ثقافيّاً لتثوير الوعي ونقض الاستبداد. وبرز، في هذا السّياق، خطّ فكريّ تجديديّ/ تنويريّ عربيّ، رفد حركة التّغيير نحو غد أفضل، وأنتج ثقافةً نقديّةً احتجاجيّةً عامة، انتشرت بين صفوف الشّباب عموماً، وخرّيجي الجامعات العربيّة خصوصاً، فانصرف محمّد عابد الجابري، مثلاً، إلى النّظر في كيفيّات إعادة بناء العقل العربي، وانكبّ عزمي بشارة على البحث في آليّات تمدين المجتمع العربي ودمقرطته، وإشراك المواطن في الشّأن العامّ، واشتغل هشام جعيّط على الغوص في قضايا الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة وعلاقتها بالآخر، ووقف هشام شرابي عند البنية البطريركيّة للاجتماع العربي، وفكّك كمال عبد اللّطيف منظومة الاستبداد، ونقد المقاربات الماضويّة للواقع، وأعاد حسن حنفي ترتيب العلاقة مع التّراث، وحذّر برهان غليون من مغبّة اغتيال العقل والارتهان إلى الماضي. فكانت هذه النّصوص، وغيرها، مساهمة في بناء وعي عربيّ جديد، وكانت أشعار أبي القاسم الشابّي ومحمّد الماغوط وأحمد مطر ومحمود درويش ومحمّد عفيفي مطر وسميح القاسم وأحمد فؤاد نجم سيّارة في النّاس، عقوداً، تخالج النّفوس، وتهزّ الوجدان، وتلهج بحتميّة الثّورة، وبضرورة الحرّية والكرامة في سبيل استرداد الإرادة، وإطلاق روح المبادرة، وبناء الدّولة المنشودة. أعادت حركة التّنوير تلك، بناء العقل العربيّ، وشكّلت وعياً نقديّاً جديداً، تحدّى دولة الاستبداد، وأدّى إلى قيام الثّورة، وفكّك عرى الدّولة الشموليّة على كيفٍ مَا. فأيّ مستقبل للتّنوير بعد الثّورة؟ هذا سؤال آخر.