مقاﻻت رأي

ماذا بقي من الثورة التونسية ؟

زووم تونيزيا | الخميس، 17 أفريل، 2014 على الساعة 11:31 | عدد الزيارات : 837
بقلم: سمير حمدي أثارت الأحكام الأخيرة الصادرة عن محكمة الاستئناف العسكري بتونس والتي قضت بتخفيف الأحكام…
لصادرة بحق عدد من المتهمين بجرائم دموية بحق شهداء وجرحى الثورة التونسية وإسعاف عدد آخر من المتهمين المورطين في ذات القضية بتأجيل التنفيذ وعدم سماع الدعوى وهو ما يعني من الناحية الفعلية الإفراج عنهم وتبرئة ساحتهم من جرائم القتل العمد بحق أبناء الشعب، أثارت ردود أفعال واسعة سواء من أهالي الشهداء والجرحى أو من قوى سياسية ومدنية التي عبرت عن استهجانها ورفضها لمثل هذه الأحكام. غير أن المتتبع للمسار الذي اتخذته الثورة التونسية يجد أن ما جرى هو تتويج للسياق العام الذي انبنى منذ البداية على نمط من التوافقات والتنازلات المتبادلة بعيدا عن منطق المغالبة أو اللجوء الى لغة الحسم الثوري .   فبعد فرار المخلوع بن علي لم تستطع قوى الثورة حسم مسألة الحكم الذي ظل في يد أركان النظام السابق ممثلة في محمد الغنوشي رئيس حكومة بن علي ورئيس الجمهورية حينها فؤاد المبزع ( رئيس برلمان المخلوع ) وحتى بعد الحراك الثوري المتواصل واعتصامي القصبة 1 و2 فقد انتهى الأمر الى تسليم رئاسة الحكومة الى الباجي قائد السبسي وهو احد رموز النظام القديم لتنطلق بعدها لعبة التوافقات والتسويات التي قادتها هيئة بن عاشور من اجل الإعداد لانتخابات المجلس التأسيسي ،وفي تساوق مع هذا الحراك السياسي تحرك أساطين السلطة من الحرس القديم في اتجاه التخفيف من وتيرة الحراك الثوري وإجهاض كل محاولات المحاسبة وإقرار عدالة انتقالية حقيقية تعيد الحق الى أصحابه ويمكن أن نلاحظ بنظرة سريعة أن نسق التعيينات في ظل حكومة السبسي كان متسارعا حيث أعادت الدولة العميقة هيكلة ذاتها لتتهيأ للتعامل مع الوافد الجديد للسلطة بعد الانتخابات. فمباشرة اثر تولي حكومة الترويكا ( التي ضمت حركة النهضة وحزبي المؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل من اجل العمل والحريات ) الحكم بدأت الأزمات في التتالي بشكل متواصل ، ففي البداية تفككت القوى الثورية المعنية أصلا بنجاح الثورة لتنشغل بأجنداتها الحزبية وتصفية حساباتها الإيديولوجية مع القوى الجديدة الصاعدة للسلطة التي كانت حليفتها بالأمس ولم نعد حينها إزاء عملية ثورية وتغيير جذري للمعادلة السياسية وإنما تحول الأمر الى لعبة سلطة/معارضة دون أن تتوفر الشروط الموضوعية لهكذا معادلة خاصة بالنسبة لبلد لازال في مرحلة انتقال ديمقراطي ولم تجف فيه دماء الشهداء بعد فما بالك أن يستقر فيه المشهد السياسي في تحالفاته المتقلبة .لقد فشلت الترويكا في خلق تحالف واسع من القوى الثورية لإدارة الحكم وركزت جهودها على إنجاح تجربتها في الحكم والتعامل مع الوضع المضطرب وكأنه حالة طبيعية يمكن في ظلها تحقيق نجاحات اقتصادية واجتماعية.وفي المقابل اتجهت قوى المعارضة مستندة الى الاتحاد العام التونسي للشغل الى تحريك قضايا مطلبية وإثارة الشارع والتعامل مع الحكومة الوافدة بوصفها نظاما معاديا ينبغي إفشاله ولو أدى الأمر الى التضحية بالمكاسب الثورية التي تحققت حتى تلك اللحظة.وفي خضم هذا الصراع المتصاعد سارعت قوى الثورة المضادة الى إعادة تشكيل ذاتها ومَركَزَة مصادر القوة لديها من اجل استعادة زمام المبادرة من جديد مستفيدة في ذلك من جملة من العوامل يمكن توصفيها على النحو التالي : شبكات إعلامية واسعة نشأت في ظل النظام السابق وظلت معادية لروح الثورة وتسوق لخطابات الإحباط وإثارة الحنين لزمن الرئيس المخلوع ونشر الدعايات السوداء وكسر روح الثورة ( التخويف من انتشار الإرهاب وانعدام الأمن ، الترويج لفكرة أن ما جرى لم يكن ثورة وبالتالي من الخطأ أن ننتظر منها نتائج ثورية ،التركيز على القتامة المفترضة للوضع الاقتصادي والاجتماعي وأن الدولة على حافة الإفلاس ، تكرار الخطاب الذي مؤداه أن الوافدين الجدد للحكم ليسوا رجال دولة ولا علاقة لهم بمنطق السلطة ـ وهذا صحيح في جانب منه ـ غير أن الخطير فيه هو الإعداد النفسي للشعب من اجل عودة رموز الحكم القديم ). دولة عميقة تمثلت في أجهزة الدولة وإداراتها المتعددة التي رفضت التعاون مع الحكام الجدد بل وتحولت الى قوة جزر تكبح جماح كل عملية إصلاحية حقيقية حيث لم يشعر المواطن بتغيير فعلي بعد الثورة في ظل استمرار الممارسات القديمة بل وتزايدها ( رشوة ، محسوبية ، فساد إداري ، واستزلام على أساس الولاءات والقرابات).  نقابات أمنية نشأت باعتبارها استمرارا للبوليس السياسي الذي تم حله ( نظريا ) ولعبت دور المدافع عن رجل الأمن المضطهد ولكنها في جوهرها مثلت أحد اللوبيات التي تحاول فرض أجنداتها الأمنية من اجل تعطيل محاسبة الفاسدين في أجهزة وزارة الداخلية ووصل بها التغول الى حد عدم احترام رموز السلطة الجديدة الناشئة ( حادثة طرد الرؤساء الثلاث بتاريخ 18 أكتوبر / تشرين أول 2013 أثناء موكب تأبين عوني حرس وطني).  قوة رجال الأعمال المتنفذين وأصحاب المصالح الفعليين ممن استثروا زمن المخلوع سواء عبر علاقاتهم مع مافيات الطرابلسية ( أصهار الرئيس المخلوع ) أو عبر صفقات المشاريع التي يتم انجازها لصالح الدولة والتي كان يتم الحصول عليها عبر قنوات فاسدة.   وإذا أضفنا لكل هذا بعض حوادث الاغتيال السياسي ( مقتل كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي ) التي تمت في ظروف غامضة فقد انتهى المشهد بصعود قوى الثورة المضادة لتصبح مكافئا موضوعيا لأحزاب السلطة التي بدأت بالتآكل الداخلي والشعور بالضعف والعجز عن الأداء المتوازن خاصة في ظل الضغط الدولي إضافة الى ضغط التحالف الداخلي الذي ضم قوى كثيرة كانت في لحظة ما متنافرة ( الالتقاء بين الجبهة الشعبية التي تضم أحزاب يسارية وقومية مع نداء تونس ابرز قوى الثورة المضادة بالإضافة الى الأحزاب الوسطية مثل الحزب الجمهوري في إطار ما سُمي حينها جبهة الإنقاذ الوطني ربما تيمنا بالتجربة المصرية التي أفضت الى انقلاب عسكري) وكان مطلبها الأساسي مثلما ورد في بيان التأسيس الذي وزعته بتاريخ 26 جويلية/ يوليو 2013 " تشكيل حكومة إنقاذ وطني محدودة العدد لا تترشح في الانتخابات القادمة متطوعة برئاسة شخصية وطنية .." بالإضافة الى إنهاء أعمال المجلس الوطني التأسيسي الذي اعتبرته فاقدا للشرعية.ولتتطور حالة التجاذب السياسي بين القوى الى نوع من الصراع المفتوح وسياسة عض الأصابع والتي أفضت وفي ظل حالة التكافؤ (خاصة بعد انكفاء الجيش عن اللعبة السياسية ورفضه الانقلاب على المسار الانتقالي ) الى إقرار ما سيُسمى بالحوار الوطني تحت رعاية الرباعي الراعي للحوار الذي يضم كل من الاتحاد العام التونسي للشغل ( اكبر اتحاد عمالي ) والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة ( الذي يضم رجال الأعمال ) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالإضافة الى الهيئة الوطنية للمحامين وكانت مخرجات هذا الحوار تعبيرا فعليا عن لعبة التوازنات حيث تم الانتهاء من صياغة الدستور والاتفاق على حكومة توافق وطني في أفق انجاز الانتخابات قبل موفى سنة 2014 حسبما ينص على ذلك الدستور الجديد في باب الأحكام الانتقالية.   ورغم كل هذه الصعوبات والمعوقات فيمكن القول أن النخبة السياسية التونسية تمكنت من مجاوزة حالة المضيق السياسي ومواصلة مسار الانتقال الديمقراطي بعيدا عن سيناريوهات الانقلاب وحروب الإلغاء المتبادل دون أن ينفي هذا جملة من الحقائق لعل أهمها:   تراجع المسار الثوري لمصلحة لعبة التوافق السياسي ومنطق التوازنات القائم على اكراهات الواقع.  صعود قوى الثورة المضادة وتحولها الى رقم يصعب إلغاؤه أو إبعاده وحتى محاولات إقرار البند 19 من القانون الانتخابي الذي ينص على إبعاد رموز النظام السابق عن المشاركة الانتخابية لم يعد يجد قوة سياسية كافية لتمريره في المجلس التأسيسي. محاولة تصفية كل القضايا العالقة منذ رحيل الرئيس المخلوع ومن ضمنها الأحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية بخصوص المورطين في قضايا قتل شهداء الثورة وأيضا رفع حظر السفر عن عدد من رجال الأعمال المستفيدين من النظام السابق.   إن حصاد الثورة التونسية يظل أفضل من غيره من الثورات العربية التي ظلت تراوح مكانها بين الانزياح الى الفوضى أو الردة الى منطق الانقلاب دون أن يعني هذا أن ثورة شعب تونس قد حققت أهدافها جميعا أو أنها واصلت نسقها الثوري بشكل تصاعدي وفي ظل منطق المقارنات الذي لا يغيب يمكن القول مع المثل العربي " العمش ولا العمى ".