بقلم: سمير حمدي
بعيداً عن التوصيفات الانتصارية ومنطق الغالب والمغلوب، أفضت الانتخابات التونسية الماضية (23…
كتوبر 2011) إلى نتائج متوقعة، لكنها لا تخلو من نوع من المفاجأة، خاصة من حيث التقدم الذي حققته بعض القوائم المستقلة (قائمات العريضة الشعبية)، أو السقوط المدوي لبعض الأحزاب التي كانت تتحدث عن اكتساحها المحتمل للمشهد السياسي (الحزب الديمقراطي التقدمي/ الحزب الجمهوري حالياً، والاتحاد الوطني الحر).. فإن فوز حركة النهضة وهزيمة قوى اليسار[1]، كان من قبيل المتوقع السياسي، ولسنا بوارد تحليل عوامل انتصار التيار الإسلامي، وإنما سنحاول تلمّس ملامح أسباب الفشل الذي لحق قوى اليسار التي ظلت ولردح طويل من الزمن أعلى القوى صوتاً وأكثرها تأثيراً في منظمات المجتمع المدني مقارنة بما كشفت عنه الانتخابات من ضمور في حجمها الشعبي وقلة ناصرها بين المواطنين.. فكيف يمكن فهم ضعف اليسار التونسي؟ وما الأسباب الكامنة وراءه؟ وما طبيعة الأزمة التي يعانيها؟
من الناحية التاريخية لا يمكن إنكار حضور قوى اليسار في الساحة السياسية التونسية بدءاً ببداية ظهور أولى المجموعات الماركسية في عشرينيات القرن الماضي (تشكل أولى الخلايا باعتبارها جناحاً للفرع الفرنسي للأممية الشيوعية بتاريخ 18 ديسمبر 1921)، مروراً بتأسيس الفرع التونسي للحزب الشيوعي الفرنسي ثم تونسة الحزب (سنة 1939)[2]، ومن بعد ذلك تشكلت مجموعات اليسار الجديد التي ستتخذ فيما بعد تسميات حزبية مختلفة (حزب العمال الشيوعي، الوطنيون الديمقراطيون بفصائلهم المختلفة، الحزب الاشتراكي اليساري... إلخ)، غير أن هذه القوى ظلت تراكم عجزها التاريخي رغم ما عرفته من انتعاش في فترة تاريخية ما (نهاية الستينيات وبداية السبعينيات)، ومن حيث تعرض بعض فصائلها للقمع في ظل دولة بورقيبة وحكم وريثه المخلوع بن علي، غير أن المشهد العام يوحي بفشلها في التحول إلى قوى جماهيرية فاعلة واكتفائها بلعب دور النخب الساخطة حيناً والمتحالفة مع السلطة حيناً آخر، وهو أمر تحول إلى كارثة حقيقية في ظل انتخابات تتجاوز حركية النخبة إلى حركية الجماهير، وعلى هذا الأساس يمكن أن نعزو الهزيمة الانتخابية وضعف الامتداد الجماهيري المزمن الذي تعانيه قوى اليسار التونسي إلى أزمة حادة يعانيها ويمكن أن نفصلها على النحو التالي:
أزمة الخطاب:
لقد ظل اليسار التونسي يجتر خطاباته الكلاسيكية (خصوصاً من حيث الموقف من قضايا الدين والهوية) دون أن يدرك أن هذا النمط من الخطاب قد عفا عليه الزمن وثبت فشله في التأثير في الشارع؛ فحزب العمال مثلاً ظل يصر على حمل كلمة شيوعي مع ما تحمله من مضمون سلبي في أذهان الناس (وقد تخلى عنها بعد الهزيمة الانتخابية) بسبب ترادف هذا اللفظ مع منطوق الكفر والإلحاد (بغض النظر عن صحة هذا الاعتقاد). وإذا كانت أدبيات الحزب (في فترة الثمانينيات) قد اعتبرت الدين جزءاً من الأيديولوجيا الرسمية بوصفه “يشكل أداة من الأدوات التي ما فتئت تستخدمها الطبقات السائدة في المجتمع للحفاظ على سيطرتها الاقتصادية والسياسية والثقافية على الملايين من الكادحين والفقراء. فهو سلاح بيدها لتبليد عقولهم وجعلهم يهيمون في ظلمات الأفكار المثالية والرجعية المتعلقة بتصورهم لأنفسهم ولعلاقتهم بالطبيعة والمجتمع“[3].. وبغض النظر عن المراجعات اللاحقة أثناء الصراع مع النظام الاستبدادي، والتي جعلته يقر بحق الإسلاميين في الوجود السياسي وصولاً إلى التعاون مع حركة النهضة في إطار مبادرة 18 أكتوبر 2005؛ غير أن هذا التعاون لم يكن سوى مرحلياً، وهو ما جعل الحزب يعود بعد الانتخابات الأخيرة إلى ما يشبه خطاب الثمانينيات من حيث عدوانيته وإقصائيته، أما باقي فصائل اليسار الأقل تأثيراً والأدنى حضوراً في الشارع التونسي (مثل حركة الوطنيين الديمقراطيين والحزب الاشتراكي اليساري ورابطة اليسار العمالي والحزب الوطني الاشتراكي الثوري)؛ فإن خطابها لا يزال أكثر أرثوذوكسية من ذي قبل، بل لا يزال يراكم خطاباً ماركسياً مغلقاً يرفض المراجعة والتطوير ويتبنى نمطاً من العلمانية الشاملة في صيغها الأكثر تشدداً إلى حد الدعوة إلى إقصاء الدين عن كل جوانب الحياة واعتباره أداة في يد الرجعية (راجع مثلاً الوثيقة التأسيسية للحزب الاشتراكي اليساري أو كراس حول مسألة التحالف مع الحركة الإسلامية لمحمد الكيلاني)[4]. أما يسار الوسط، كما يظهر في الحزب الشيوعي التونسي في صيغته المعدلة «حركة التجديد»، فرغم ما يبدو من تطوير للخطاب والانتقال إلى نمط من الليبرالية السياسية والاقتصادية، غير أن مواقفه من قضايا الدين والهوية ظلت تراوح مكانها من حيث العداء للهوية العربية الإسلامية لتونس وولائها للفرنكوفونية، إلى الحد الذي جعل نائباً ينتمي إلى التجديد (السيد منذر حسني) يعلن بوضوح رفضه المادة الدستورية التي تنص على أن تونس دولة دينها الإسلام رغم أن هذه الصيغة منقولة بصورة تكاد تكون حرفية من دستور سنة 1959 الذي وضع بعد الاستقلال، غير أنه أصر على اعتبارها مادة تفتح الباب نحو الإقرار بإسلامية الدولة وبعروبة هويتها، وهو ما يمثل في اعتقاده خطراً على الحريات ويمس أمن حقوق الأقليات، وأكثر من هذا؛ فقد تورط بعض عناصرها في الدفاع عن التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني مع ما تمثله هذه المواقف من مصادمة للوجدان العربي الإسلامي للشعب التونسي (موقف الحبيب الكزدغلي من القضية الفلسطينية، وهو أحد ناشطي القطب الحداثي الذي تتزعمه الحركة، وهو ما يعرف حالياً بالمسار الاجتماعي)[5].
أزمة الممارسة:
من الأكيد أن أزمة الخطاب لدى أبرز قوى اليسار التونسي انعكست على نمط ممارسته، وهنا لا يمكن التعامل مع قوى اليسار بوصفها كتلة واحدة لا تشقها التناقضات أو الاختلافات، بحيث يمكن أن نجد ممارسات مختلفة تندرج ضمن تشكيلات نمطية للعمل السياسي، ويمكن تصنيفها على النحو التالي:
ـ التحالف مع النظام السابق: وهنا لا يمكن التعميم من حيث ينبغي الإقرار بنضالية بعض القوى اليسارية التي رفعت لواء الصراع ضد نظام الاستبداد وكانت حاسمة في القطع معه ورفض التعاون معه، غير أن قوى يسارية أخرى (أحزاباً وشخصيات) تورطت في التعامل مع نظام المخلوع إلى حد التحالف معه في تبرير ضرب قسم آخر من المعارضة (الإسلامية منها خصوصاً)؛ فالحزب الشيوعي التونسي (حركة التجديد لاحقاً) اعتبر التيارات التي تصارع النظام بغض النظر عن خلفيتها (يسارية أو غير يسارية)، ستؤدي بمواقفها الرافضة للتعاون مع السلطة “إلى هدر الطاقات والعزائم، وغلق باب الاجتهادات، وتشتيت المناضلين، والالتقاء مع التيارات الرجعية والسلفية المتموقعة خارج البلد، والتي تبذل قصارى الجهود لتظليم صورة الوطن (هكذا)، مثلما تؤدي إلى نفي مستلزمات الوفاق الوطني والقطيعة مع السلطة الوطنية“[6]. وقد تورطت بعض الشخصيات اليسارية المعروفة في التعاون مع نظام المخلوع وقدمت له خدمات واسعة لتنفيذ تصوره الاستبدادي القائم على نوع من الأحادية المطلقة والإقصاء الشامل لكل من لا يدور في فلك منظومة الاستبداد الرسمية وتوجهاتها القمعية الشرسة (تولي بعض رموز حركة آفاق الماركسية، وأبرزهم محمد الشرفي، مناصب وزارية نافذة، وتنفيذ أجندات استئصالية لجوانب التدين في مجالي التعليم والثقافة خاصة خدمة للنظام الحاكم)، ويؤكد عبد الحميد الأرقش (أحد الوجوه اليسارية المعروفة) هذا التوجه بقوله: “إن فئات واسعة من اليسار صمتت على ذلك القمع وكأنها قبلت أن تقوم الدولة القمعية بدور السد أمام تصاعد المد الإسلامي“[7]. والحقيقة أن الأمر يتجاوز مجرد التواطؤ بالصمت إلى المشاركة بالتحريض والتبرير، وهو ما أفقد بعض القوى اليسارية مصداقيتها أمام الرأي العام، ويعد أحد أسباب تراجعها الجماهيري، ويحمّل فيصل الزمني (حزب اليسار الحديث) “حزب الدستور بشقيه الاشتراكي الدستوري والتجمع (الحاكم سابقاً)، مسؤولية تخلف اليسار، إضافة إلى الانتهازيين اليساريين الذين دخلوا التجمع، أما السبب الثاني فهو أن اليسار نسي الفكر التحرري الحي ونظرياته العلمية وتفرغ لقتال الإسلاميين، فلعب بذلك دور العجلة الخامسة لحزب الدستور (الحاكم)“[8]. والغريب في الأمر أن بعض هذه القوى اليسارية لم تتعظ من درس التاريخ لتعيد مراكمة أخطاء الماضي من خلال التحالف مع فلول الحزب الحاكم ضد مسار الثورة وضد مصلحة الشعب الذي تدّعي الدفاع عنه بصورة دفعت أحد أبرز الباحثين القوميين (الدكتور سالم الأبيض) إلى التساؤل عن خلفيات مثل هذا اللقاء “أهو التاريخ يعيد نفسه لكن في شكل مهزلة هذه المرة كما يقول ماركس؟ فهناك تجربة مشابهة مع بن علي ورجاله نفذها جهابذة حركة آفاق من أمثال الشرفي ونالوا بها من المواقع والامتيازات والتأثير ما جعلهم يتخلون عن الأيديولوجيا الطبقية وعن الفكرة الديمقراطية التي خلنا يوماً أنهم باتوا يؤمنون بها بدعمهم لأحد أعتى الاستبداديات؟ أم هي المصلحة الآنية المتأتية من مشاركة البعض منهم في حكومة الباجي[9] ولذة الحكم الذي تذوقوه؟ أم هو العدو الجديد المتمثل في القوى الدينية المتنامية التي هي في أوجها هذه الأيام، ما جعلهم يتناسون خلافاتهم وتناقضاتهم مع أعداء الأمس من جلاديهم إن كانوا أعداء فعلاً؟“[10]. وتبقى هذه الأسئلة معلقة برسم هذه القوى اليسارية التي انخرطت في ركب الثورة المضادة لتجهز على الرصيد الباقي لديها عند جماهير الشعب، بل لتلحق “شديد الضرر ببقية الفصائل اليسارية الراديكالية“ بالنظر إلى نمط ممارستها الانتهازية التي ستودي بها لا محالة نحو الاندثار السياسي.
ـ غياب الثقافة الديمقراطية: قد يبدو من الغريب وصف قوى اليسار التونسي ووصمها بسمة الجهل السياسي وغياب الثقافة الديمقراطية وعدم الوعي بمنطق الاختلاف والتعدد، غير أن المتابع للساحة السياسية التونسية يمكن أن يدرك هذا الأمر دون عناء، بل قد سبق أن أشار إليه غير واحد من رموز الأحزاب اليسارية، حيث يؤكد محمد الكيلاني (زعيم الحزب الاشتراكي اليساري) أن اليسار “ما زال أيديولوجياً أكثر منه سياسياً.. وأن الديمقراطية في منظومته الفكرية بصفة عامة وأساسية ما زالت محدودة، بحيث إنه ميال إلى نفي الآخر وكل من يخالفه الرأي؛ لذلك تتجلى هذه الميزة في العنف اللفظي والتشنج الذي تتعامل أغلب المكونات به مع بعضها البعض“، ويضيف أنه “لا مخرج لليسار سوى التباين مع هاته العقلية ودخول مدرسة الديمقراطية من بابها العريض والتواضع والقبول بالعودة إلى المدارس الابتدائية لتلقي الدروس الأولى للعمل السياسي“[11].
لقد ظل اليسار التونسي عاجزاً عن تطوير ممارساته السياسية نحو مزيد من التجذر في المجتمع، بل انتكس نحو مزيد من الانغلاق والنخبوية المفرطة، ويمكن تلخيص أهم مشاكل اليسار التونسي في النقاط التالية:
ـ عجز القوى الشيوعية عن الاستمرارية خارج الدعم الدولي، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية ظل رموز اليسار يعانون يتماً أيديولوجياً ومادياً (توقف الدعم)، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عن حلفاء جدد ولو من داخل المنظومة التي كانوا يتهمونها بالإمبريالية (علاقات وثيقة مع فرنسا واجتماع حمة الهمامي وزعماء تحالف ما يسمى حالياً الجبهة الشعبية مع السفير الأمريكي).
ـ تورط قيادات اليسار في التحالف مع نظام بن علي الاستبدادي ضد الخصم الإسلامي واستعادة نفس المشهد حالياً من خلال بناء حلف جديد مع بقايا النظام السابق نكاية بخصومهم من التيار الإسلامي ورغبة في التنعم ببعض فتات الحكم.
ـ تتميز القوى الحزبية المشكلة لليسار التونسي بطبيعتها الاحتجاجية وبحضورها الواضح في النقابات وفي المنظمات الحقوقية، ورغم هذا الحضور النشيط فإنها تفتقر إلى الكادر التقني القادر على إدارة شؤون الدولة؛ لأن تسجيل المواقف والاحتجاج على الحكم يختلف عن ممارسة السلطة وتقديم الخدمة العامة للناس.
ـ فشلت قوى اليسار التونسي في أن تتحول إلى قوة شعبية فعلية، حيث ظلت في غالبها مجرد قوى نخبوية تمارس عملاً نضالياً دون قدرة على تنزيل برامجها إلى الشارع وإلى المواطن البسيط، وهو ما يفسر تدني نسبة التصويت لقوائمها في انتخابات 23 أكتوبر 2011 الماضية.
ـ رغم المراجعات التي حاولت بعض الأحزاب تسويقها على أساس أنها بدأت تتخلى عن أرثوذوكسيتها الماركسية، إلا أن السمعة التي راكمتها تاريخياً بوصفها أحزاباً علمانية متطرفة ومعادية للدين، جعلتها بعيدة عن الوجدان الشعبي، وما زاد في مراكمة هذا الشعور هو مواقف بعض القيادات اليسارية التي كانت مستفزة للشعور الديني وأحياناً مناقضة للرأي العام (المبالغة في المطالبة ببعض الحريات العامة والتركيز على المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة مع ما يقتضيه من إلغاء للحكم الشرعي المتعلق بالميراث والموقف الحاد من التنصيص في الدستور على أن دين الدولة الإسلام).
ـ رغم ثورية بعض الأحزاب اليسارية ورفعها سقف مطالبها إلى حد المطالبة بإلغاء الديون الخارجية والدعوة إلى الاشتراكية، إلا أنها في مواقفها اليومية وفي بعض تحالفاتها نجدها تتورط في التقارب مع بعض القوى التي كانت من بقايا المخلوع أو تجد دعماً من بعض وجوه قطاع الأعمال الفاسد، وهو ما يثير الريبة لدى بعض الفئات الشعبية من التناقض بين الشعارات والممارسات.
ـ تشهد مواقف بعض أحزاب اليسار حالة من التذبذب تكشف عن افتقادها الرؤية الاستراتيجية الواضحة، ولعل خير شاهد على ذلك مواقف حزب العمال من المجلس التأسيسي، حيث كان أول المطالبين بتشكيله إثر سقوط المخلوع مباشرة، لنجده اليوم أول المنادين بإسقاطه بصورة كاريكاتورية تدعو إلى الرثاء.
ـ تعاني قوى اليسار أزمة ثقة متعاظمة فيما بينها تصل إلى حد الإقصاء ومحاولة الإلغاء، وهو أمر يؤيده إبعاد “الحزب الوطني الاشتراكي الثوري“ من الجبهة الشعبية بضغط من حزب العمال، وكل هذا على خلفية رفض الحزب الوطني الاشتراكي الثوري التحالف مع حزب نداء تونس (المتحدر من بقايا النظام السابق).
إن الإشكال الذي يعيق ضبط نبض الحراك الحزبي لدى اليسار التونسي، هو عدم استقرار ذبذبات التحرك الحزبي وارتباطه بالعلاقة الفاشلة بين القيادة الحزبية والجماهير الشعبية التي يفترض أنه يمثلها ويدافع عن مصالحها، هذه العلاقة التي أخذت أبعاداً ترتبط “بالانتهازية السياسية“ المرتبطة بدورها بمفاهيم “الاحتماء السياسي“ بدل “الاقتناع السياسي”، بمعنى أن أحزاب اليسار لم تعد تفكر انتخابياً مع ما يقتضيه الأمر من تواصل مع الناس، وإنما أصبحت تمارس العمل الحزبي بمنطق أنها الحامي لمصالح جماهير الشعب والناطق الرسمي باسمها بغض النظر عن موقف هذه الجماهير ذاتها أو حتى استشارتها، وهو ما ولّد أنواعاً جديدة من الولاء السياسي المقنّع بالأيديولوجيا المنفعية التكتيكية التي تحتّمها ضرورات المصلحة و”ريع المرحلة“، وهي أمور تجلت في التحالف مع قوى تمثل الثورة المضادة في تونس، قوى تتلقى الدعم من أطراف خارجية كانت أحزاب اليسار تستميت في وصفها بالرجعية والعمالة وخدمة الإمبريالية والرأسمال المعولم (بعض دول الخليج)، بل وصل الأمر بزعيم حزب العمال حمة الهمامي إلى لقاء السفير الأمريكي في شطب واضح لتراث كامل من العداء لدولة كان يعدها اليسار أكبر داعم للرجعية والعدو الأول للشعوب التي تتوق للحرية، وهذه القناعات المرتحلة سياسياً متداخلة بالانتقال المتسارع للتحول الديمقراطي.
إن هذا الاضطراب الواضح في المواقف والخلخلة التي لحقت بنية التصورات الفكرية والقناعات الأيديولوجية لليسار التونسي؛ هو الذي يفسر عمق الأزمة التي يعانيها، حيث تراوح مواقفه المعلنة بين التمترس خلف مقولات سياسية خلّفتها الحرب الباردة، وبين الانتهازية المفرطة التي تنفي كل مبدأ، وهي حالة يصدق عليها ما قاله المفكر الماركسي سلامة كيلة بأن “.. اليسار الذي حاول أن ينهض من سرير الموت كرّر السياسات ذاتها التي أوصلته إلى القبر، وظل يفكّر في الطريقة ذاتها التي أماتته، فقد ظل يعيش أجواء الحرب الباردة رغم انهيار النظم الاشتراكية وتأزم وضع الإمبريالية، وتفكك مراكز السيطرة الإمبريالية، وبدء النهوض الشعبي في كل العالم؛ ولهذا فقد نهض يحمل كل العجز الذي سكنه منذ عقود، ويلوك الأفكار التي أوصلته إلى العجز”.
وبالفعل، فقد رأينا اليسار في أمريكا اللاتينية، وبعد سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية والعالم الثالث؛ ينفض غبار أزمته، ويسير في نجاح وتدارُك لبراثن الأزمة، حتى إنه قد أفرز حركات يسارية دينية، لا سيما لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، بينما لا يزال اليسار التونسي في حالة من التيه يجتر خيباته ولا يعرف كيف يمكنه الخروج من أزمته.
:: مجلة البيان العدد 321 جمادى الأولى 1435هـ، مارس 2014م.
[1] كانت نتائج الأحزاب اليسارية (ذات الخلفية الشيوعية) في انتخابات المجلس التأسيسي، غاية في الضعف، حيث اكتفى حزب العمال الشيوعي مثلاً بما لا يزيد على (60620) صوتاً، أي ما يمثل 1 فاصل 41 في المائة من مجمل الأصوات المصرح بها، فيما لم تحصل حركة الوطنيين الديمقراطيين على أكثر من 0 فاصل 75 في المائة من الأصوات، فيما كانت نسب بقية المجموعات اليسارية الماركسية والقومية أكثر مأساوية (حركة الشعب 0،74 حركة البعث 0،24 حزب النضال التقدمي 0،22 الحزب الشعبي للحرية والتقدم 0،19).
[2] راجع فصل “الحزب الشيوعي التونسي“ من كتاب “الأحزاب والحركات اليسارية“، الجزء الأول، الصادر عن المركز العربي للدراسات الاستراتيجية.
[3] الهمامي، حمة: كتاب “ضد الظلامية“، ص 22 ، دار صامد للنشر، 1988.
[4] يؤكد الحزب الاشتراكي (اليساري) في بيانه التأسيسي الصادر بتاريخ 25 أكتوبر 2006، أنه “لا يمكن للجمهورية أن تأخذ الشكل الديمقراطي إلا إذا جعلت من العلمانية واللائكية أساساً من الأسس التي تقوم عليها”، و”أن الدولة العلمانية التي تحقق فيها فصل الدين عن الدولة تشيع حرية المعتقد، لأنها تعده شأناً خاصاً..وتحجر توظيف المساجد والجوامع ودور العبادة في السياسة“ (ص 18 - 19). أما الحزب الوطني الاشتراكي الثوري، فهو يؤكد في منشور له بعنوان “الجذور المادية للسلفية ولحداثة العمالة“ أن “ظهور هذه القوى (يقصد التيار الإسلامي) بشكل مفضوح وطرحها قضايا قروسطية ومتخلفة ومهينة للذات البشرية بهذا الشكل الذي يبعث على الاشمئزاز والتقزز، هو ليس فقط ظاهرة فكرية، وإنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتخلف مجتمعنا على مستوى بنائه الاقتصادي و الاجتماعي”.
[5] تصريح الحبيب الكزدغلي الذي اعتبر فيه “أن معاداة الصهيونية ليست من ثوابت الشعب التونسي، بل هي مسألة بين الإسرائيليين والفلسطينيين“، جريدة “الصباح“ التونسية بتاريخ 14 يونيو 2011.
[6] افتتاحية العدد الصادر في 15 أبريل 1996 من صحيفة الطريق الجديد التي يصدرها الحزب الشيوعي التونسي، حركة التجديد حالياً.
[7] الأرقش، عبد الحميد: حوار نشرته جريدة “الشروق“ التونسية بتاريخ 11 مارس 2011.
[8] الزمني، فيصل: حوار نشرته جريدة “الشروق“ التونسية بتاريخ 25 يونيو 2011.
[9] إشارة إلى مشاركة أحمد إبراهيم (الأمين العام لحركة التجديد، الحزب الشيوعي سابقاً) في حكومة محمد الغنوشي ومشاركة عز الدين باش شاوش أحد الرموز التاريخيين لحركة آفاق اليسارية في حكومة الباجي قايد السبسي.
[10] الأبيض، سالم: مقال “في التقاء يساريين والتجمعيين البورقيبيين“، جريدة الحصاد الأسبوعي الصادرة بتاريخ 14 أبريل 2012.
[11] الكيلاني، محمد: حوار منشور في جريدة الشروق التونسية بتاريخ 23 يونيو 2011.