لا شك أن المرحلة السياسية التي تعيشها البلاد اليوم تنبض على وقع الإنتخابات القادمة بما لها من استعدادات…
ستراتيجية وبناء تصورات قائمة على تقديم وجهة التحالفات والخيارات الكفيلة لضمان موطئ قدم في السلطة وقراءة السيناريوهات المحتملة للخصوم في بلورت فعلهم الإنتخابي من زاوية الشراكة المحتملة والإستثناءات القائمة على تغيير خططهم، وكذلك هو اختيار المرشحين وممثلي الأحزاب في الإنتخابات الرئاسية والتشريعية
إن الخيار اليوم القائم على الفصل بين الإنتخابات الرئاسية والتشريعية مع سابقية الرئاسية، يعطي لهذه الإنتخابات أولوية قصوى لما لها من تأثير مباشر على حصيلة الإنتخابات التشريعية، وإن اختيار المرشح الأفضل لخوض غمار الإنتخابات الرئاسية قائم اليوم على أساس الصورة والخلفية التي يحملها المرشح وماله من رصيد ضروري للفوز فيها وكذا هي خيارات التحالفات الإستراتيجية التي تؤسس عليها الأحزاب قرارها في تقديم مرشحها
ينتظر اليوم المتتبعون للمشهد السياسي والمعنيون بالإنتخابات الرئاسية القادمة موقف النهضة منها وكيف هي خياراتها في التعاطي مع هذا الملف الذي ولا شك تراهن عليه الحركة لتثبت تصدرها للسلطة في تونس خلال فترة ما بعد الإنتقال الديمقراطي
رغم ما ترزخ به حركة النهضة من صفوة مناضلين يشهد لهم الجميع بدورهم، كغيرهم، في ساحة النضال لزعزعة النظام البائد وتعبيد طريق الإنعتاق لغاية بناء لتونس الحريات والديمقراطية، غير أن هذا المعيار أُستنزف بالشكل الكافي فلم يعد له التأثير العميق في توجيه رأي الناخب التونسي، وإن تجربة ترأس المنصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية وما حام حولها من حديث على قدرة هذا الشخص على تولي هذا المنصب الحساس رغم ما يحمله من زاد نضالي كبير لا يمكن نكرانه، فأصبحت ذهنية الناخبين التونسيين في اختيارها لمرشحها قائمة بالأساس حول قدرة الشخص على إعطاء هيبة اعتبارية تنساق مع رمزية هذا المنصب وقدرة واضحة في التعاطي مع السلطات التي تتقاطع معه في تحديد السياسات العامة في البلاد وكذلك قدرة كبيرة على لعب دور رجل الدولة بما يقتضيه من كاريزما وملكات حقيقية تؤهله للظفر بالمنصب.
إن تجربة حكم حركة النهضة بعد غياب قصري عن السلطة لسنوات عجاف، لم تفرز خلالها شخصيات بارزة جامعة لجملة المؤهلات الضرورية لخوض المعركة الإنتخابية وعلى قصر الفترة التي تولت فيها النهضة قيادة البلاد ، خدمت العديد من الظروف الخاصة لبروز نجم القيادي بالحركة حمادي الجبالي كشخصية توافقية حازت على مكانة هامة لدى النخبة السياسية، بنت رصيد معتبر لدى الناخبين وعموم المواطنين، وكذلك يحظى على ثقة كبيرة لدى الغرب، وإن أزمة حكومة التكنوقراط التي أطلقها الجبالي وتمايزه عن موقف الحركة من هذه المسألة وتخليه عن رئاسة الحكومة كانت سنام رصيده الهام التي أهدت الحركة مرشحا قادر على مقارعة أهم الشخصيات السياسية التي أعلنت ترشحها للإنتخابات الرئاسية القادمة، فبالرغم من أثر قرار حكومة التكنوقراط على العلاقة بين الجبالي والنهضة والأثر الحاصل في مفهوم الإلتزام الحركي والخضوع لقرارات المؤسسة والشورى داخل النهضة، فلا شك أن القيادة السياسية للنهضة تدرس بإمعان هذا الخيار متعالية على الرواسب الحاصلة ، محكمة لمنطق العقلانية القائل باغتنام هذه الفرصة وعدم المراهنة على "غير المتوقع" فقد أثبت التجربة السياسية للحركة أنه ليس بإمكانها التسليم بالثقة الكاملة في من هو خارج الحضن الحركي.
يبقى شخص حمادي الجبالي هو الرجل الأمثل للنهضة حتى يكون مرشحها للإنتخابات الرئاسية القادمة فقد تملّك، بحكم الظروف، صورة رجل الدولة المعلي للمصلحة الوطنية ولو على حساب خيارات حزبه والباحث عن التوافق رغم إكراهات الإنتماء الحركي وما يخلفه من توتر وتبعات في العلاقة بينه وبين النضهة
إن من أبرز الملفات التي تتدارسها الأحزاب اليوم شكل التحالفات القادمة وخلال الإنتخابات وما بعدها، وعلى أي أساس ستبني هذه التحالفات بما يضمن لها أوفر حظ للتواجد في السلطة، وإنه بشكل كبير يكون الحسم في هذا الملف مقترن بمسألة مرش الرئاسية.
إن فترو تجربة الحكم التي خاضتها الحركة ضمن ائتلاف الترويكا ومن خلال العديد من المشاورات التي خاضتها مع بعض الأطراف الحزبية تموقعت في المعارضة وحتى ضمن تحالفات أخرى، هذه التجربة أعطت لحركة النهضة صورة أشمل وأوضح حول مدى استعداد جل الأطراف لخوض تجربة التحالف مع 'الإسلاميين' ومدى التزامهم بما يمليه من تنازلات وإكراهات ضرورية لتماسكه. إن براغماتية حركة النهضة المتجاوزة حتى للأدبيات السياسية للحركات الإسلامية فتحت أمامها الخيار للدخول في تحالفات ربما غير مسبوقة لضمان الإستمرارية في السلطة ولعلّ التخوف الذي يتملكها من فقدان السلطة، يدفعها الى التوجس خيفة من التحالفات القائمة وجملة الأحزاب التقليدية التي لا تقدر الحركة على ضمان التزامها بخيار التحالف معها وهو ما قد يربك تعاطيها السياسي مع ملف الإنتخابات وما بعدها
يشكل اليوم الدستوريون رقم يمكن أن نصفه بالصعب في المعادلة السياسية في البلاد، فبالرغم من الصورة النمطية التي يحملها عنهم التونسيون والتي ارتبطت بالدكتاتورية والنظام السابق فهم اليوم، ورغم أنه من المستبعد تصدرهم للمشهد السياسي على الأقل في السنوات القليلة القادمة، فلهم أن يلعبوا دول معدّل ومرجّح كفّة الثقل الحزبي للأطراف السياسية القوية، ما يجعلهم محل تنازع لهم أن يستغلوه حتى يعيدوا لأنفسهم موطئ قدم في المعادلة السياسية وتطهير ميراثهم الذي اتسخ برواسب الدكتاتورية واستغلال النفوذ. ما رجح على السطح من مؤشرات تواصل بين النهضة والدساترة في الآونة الأخيرة يطرح في الأذهان فرضية دخول الحركة لعبة النزاع على الثقل الدستوري خاصة ما له أن تستثمره في صراعها ضد نداء تونس الذي أصبح يشكل مصدر إزعاج جدي للحركة من خلال نجاحه في بناء تحالفات سياسية وانتخابية مع أطراف كانت الحركة قد سعت لتحييدهم عن هذا الحزب وإمكانية المراهنة عليهم لتشكيل تحالف جدي وقوي لما بعد الإنتخابات .
إن فكرة بناء صلات بين النهضة والدساترة تشكل كابوس مزعج لنداء تونس الذي يراهن بجدية على الماكينة الإنتخابية للدساترة والتي تمتلك قدرة كبيرة على التواصل والتأثير في الحراك الإنتخابي والدعاية الحزبية، بل إن الأمر قد يشكل خطرا على كيان هذا الحزب الذي يشهد صراعا طافيا بين شقه الدستوري وشقه اليساري إذ أن عقلانية الدستوريين تدفهم الى القرب أكثر من الإسلاميين فهم يرونه أسلم من تحالفهم مع من كانوا لهم بالأمس ضحايا سياسيين. إن دخول حركة النهضة في هذا الحساب الدقيق والخطير في تعاملهم مع الطرف الدستوري قد يعطيهم جملة من المكاسب التي قد تندر لهم... هذا إذا أحسنوا التدبير ولكن يبقى العائق الساس أمام هذا الرابط بين النهضة والدساترة مشروع قانون تحصين الثورة الذي فيه في أدناه إقصاء لكبار رموز الدستوريين وعزل لهم لفترة سياسية لا بأس بها. إن إقرار هذا المشروع والمصادقة عليه من قبل مجلس شورى النهضة عسّر امكانية هذا اللقاء بين النهضة والدساترة وقلل من فرصه، غير أن للحركة ورقة جد هامة في الإبقاء على هذه الإمكانية رغم ما قد يشكله من إزعاج وارتباك داخل قواعدها التي عانت بالأمس بشكل أو بآخر من الدستوريين 'التجمعيين' وطالبت بإقصائهم وتحييدهم عن المشهد السياسي. يتّسع الرهان على شخص الجبالي من قبل النهضة ليتجاوز حدود الرجل الأمثل والأجدر للرئاسة، فما يكتسبه "ابن الساحل" من صلات داخل الأوساط الدستورية خاصة عن طريق علاقاته الشخصية وما عبر عنه صراحة من رفضه لمشروع قانون تحصين الثورة يجعل منه محل ثقة من قبل الدستوريين يمكن أن يعتبروه رابطة لهم التعويل عليها من جهة لإعادة تلميع صورتهم ومن جهة أخرى لإعادة بياء الثقة حولهم كأطراف لها أن تلعب من جديد دورا في الحياة السياسية وحتى الحكم والسلطة، واليوم لحركة النهضة أن تلعب بهذه الورقة حتى تتمكن في ادناه من تحييد الدستوريين من الإلتقاء مع أعدائها وإدخال قدر من الإرتباك داخلهم ومن جهة أخرى ضمان أوفر الحظوظ للنجاح في الإنتخابات وتصدر مرحلة ما بعد الإنتقال الديمقراطي
قد يثقل القيادات الفاعلة داخل الحركة انتهاج مسارات جديدة في تعاطيها مع مسألة مرشحها للإنتخابات القادمة وما يقتضيه إن استوجب الدخول في تحالفات يمكن أن نصفها بغير التقليدية والمجانبة لمنطق العداء القار، فالعقلانية السياسية والتي برهنت الحركة في أكثر من مناسبة أنها قائمة في ممارسات قياداتها هي المحكم الأساس والمنطقي لأي فعل سياسي ضمن ما يسمى بإكراهات الحكم