ناجي خويلدي: أستاذ وباحث / بنزرت
ان نجاح الثورات الشعبية في تحقيق أهدافها يرتبط بمدى قدرتها على مواجهة…
لتحديات التي تعترضها, وهذه القدرة تتأتى أساسا من الايمان الشعبي العميق بضرورة القطع مع الماضي الاستبدادي الفاسد من خلال الوعي بطبيعة التحديات. ومن أكبر التحديات التي تواجهها الثورة التونسية اليوم الثورة المضادة, التي تحاول فرض واقع جديد في اطار اقليمي ونظام عالمي بصدد التحول؟ فما هي مكونات هذه الثورة المضادة؟ وما هي أهم المقولات أو الركائز التي تستند إليها وما مدى قدرتها على الحياد بالثورة عن مسارها والحيلولة دون تحقيق أهدافها؟
عرفت الثورة المضادة في تونس على مستوى التركيبة تطورا ارتبط بتطور مسار ثورة الكرامة. في البداية تشكلت من المتربحين من النظام البائد الذين ارتبطوا به عضويا بحكم طبيعته "المافيوزية" و من الأحزاب والشخصيات الفكرية والسياسية التي استعملها كديكور و "احتياطي ثوري" للترويج ل"ديمقراطيته". حاولت هذه المكونات قبيل 14 جانفي 2011 انقاذه من خلال طرح بدائل للالتفاف على الثورة من قبيل "حكومة انقاذ وطني" ثم تدعمت بعد انتخابات أكتوبر 2011 وتشكيل الحكومة الائتلافية. والظاهر أن هذه المكونات وجدت نفسها خارج الاهتمام الشعبي على مستوى البدائل التي قدمتها رغم ضخامة الحملات الانتخابية التي قامت بها وخاصة على المستوى الاعلامي لتجد نفسها فيما بعد تشكل جبهات سياسية مثلت الاطاحة بالشرعية الشعبية جوهر وجودها واستعملت لتحقيق ذلك كل الوسائل مستفيدة من تواصل وجود أخطبوط الفساد الذي خلفه النظام البائد والذي مازال مستشريا في العديد من مفاصل الدولة وخاصة في الجهاز الاعلامي والإداري, علاوة على تموقعه المؤثر في الدورة الاقتصادية.
اذا من الواضح أن الثورة المضادة قد استفادت كثيرا من ربح الوقت وخاصة في عهد حكومتي "محمد الغنوشي" وحكومة" الباجي قايد السبسي".0 حيث نجحت في تأجيل انتخابات جويلية 2011 وحاولت من خلال مسكها بالماكينة الاعلامية تسويف أهداف الثورة والخروج بأخف الأضرار في انتخابات 23 أكتوبر 2011 لكن الارادة الشعبية لإنجاح الثورة كانت أقوى وقد أكدت تلك الانتخابات اصرار هذا الشعب العظيم على تجسيد ثورته وبين عن قوة فهمه العميق لطبيعة التجاذبات السياسية والإيديولوجية وخطورة وعمق التحديات التي يواجهها. بالمقابل غيرت الثورة المضادة من تكتيكها وأعادت ترتيب أوراقها ووسعت من تحالفاتها من خلال اعادة استهلاك واجترار مقولات الاستبداد في عملية ترتكز على اعادة انتاج الماضي وإحلاله في الحاضر بل وإلباسه جبة لهذا الحاضر ليقع الاحتماء بها لإعادة التموقع من جديد وفرض مسار آخر للثورة تحصن ضمنه قوى الثورة المضادة نفسها من كل مساءلة أو محاسبة بل وأكثر من ذلك تكتسب القدرات على المناورة والتأثير المباشر في واقع انتقالي. ففيم تتمثل أهم هذه المقولات/ المرتكزات؟
المقولة الأولى: ان هذا الشعب لا يقدر على تقرير مصيره وصنع تاريخه إلا تحت مضلة زعيم قائد ملهم ومنقذ وتتجسد هذه المقولة في البعض من رؤساء الاحزاب من خلال المظهر والخطاب الذي يسوقون به لأنفسهم, وخاصة في شخصية "الباجي قايد السبسي" الذي تم تعيينه كرئيس حكومة في ظروف غامضة وبسكوت بلغ حد التواطؤ من كل مكونات الطيف السياسي, ليتقمص هذا الدور ويشكل حكومة كادت تنحرف بمسار الثورة لو لا تمسك الشعب بأهداف ثورته, لكنه بالمقابل نجح في ربح الوقت, هذا الوقت الذي استفادت منه مكونات الثورة المضادة لإعادة التموقع والتهيأ لفترة المحاسبة أو المساءلة اما بالهروب خارج البلاد أو بطمس معالم الفساد بشتى الطرق, ونجد الآن نفس الشخصية تتقمص دور القائد المنقذ متزعمة للثورة المضادة ومحاطة بعناصر حكومتها والمنظرين لها "من الاحتياطي الثوري للنظام البائد" الذين ساهموا في ادامة الاستبداد. ان هذه المقولة التي تراهن الثورة المضادة على تسويقها لتحقيق نجاحات لا تستطيع الصمود كثيرا لأنه ومن فرادة هذه الثورة أنها انطلقت من الشعب الذي استفاد مما تراكم لديه من معرفة بطبائع الاستبداد ووعيه العميق بضرورة انهاءه, هذا الاستبداد الذي ارتبط لديه بهيمنة وقداسة الزعيم الأوحد.
المقولة الثانية: ان الاطار الانسب الذي من خلاله يمكن افتكاك السلطة هو الفوضى عملا بمبدأ "الفوضى الخلاقة" وقد تمسكت الثورة المضادة بهذه المقولة واشتغلت عليها منذ 14 جانفي 2011 مستفيدة مما تركه النظام البائد من شبكات فساد حافظت في جزء كبير منها على وجودها وتماسكها سواء في بعض مفاصل الدولة او الادارة او المجتمع أو مكونات المجتمع المدني. وتعمدت خلق حالة من الخوف الجماعي من الحاضر والمستقبل في اتجاه اليأس من تحقيق أهداف الثورة وذلك باختلاق معارك وهمية وتضخيم حوادث عرضية أو مفتعلة. لكن هؤلاء تناسوا أن ثورة الكرامة لم تكن لتنجح لولا كسر التونسيين لحاجز الخوف الذي عمل النظام البائد بكل الوسائل على تدعيمه وان مقولة "الفوضى الخلاقة" لم تنجح معهم في الاشهر الاولى للثورة ولن تنجح بعد تجسيدهم لثورتهم في انتخابات اكتوبر وسيرهم الواعي نحو ارساء مؤسسات الدولة الديمقراطية.
المقولة الثالثة: يمكن التحكم وتوجيه الرأي العام من خلال السيطرة على وسائل الاعلام وتناسى هؤلاء أن ثورة الكرامة في أحد أبعادها الرئيسية هي ثورة على السفه الاعلامي وقلب الحقائق, فالاستبداد في أحد أوجهه لم يكن ليتغول لولا وجود ماكنة اعلامية محور اشتغالها التسويق لديمقراطية زائفة وأدواتها التضليل وقلب الحقائق وتمييع الجوهري وتعويم الاساسي ونجد اليوم نفس الوجوه التي ألفت لحس الفتات من تحت الطاولة تتصدر المشهد الاعلامي وتسوق لمقولات مكونات الثورة المضادة وتفرض شخصياتها على الشعب فرضا لأنها في الأصل جزء لا يتجزأ من تلك المكونات وهي بالتالي ملفوظة شكلا ومضمونا.
المقولة الرابعة: ان السلطة لا يمكن أن يقوم بها إلا وليس إلا من تولاها سابقا لخبرته بدواليبها وقدرته على فهم التوازنات الاقليمية والدولية الى جانب علاقاته بشخصيات مؤثرة في القرارات على المستويين الاقليمي والدولي. والثابت الآن وبعد مرور أكثر من نصف قرن من الاستقلال أن كل الخبرة لدى هؤلاء –وهم بصدد استغلالها- تكمن في التفنن في مصادرة رأي الشعب وتكميم الأفواه وتركيعه وقطع الارزاق ونهب المال العام وتعذيب وقتل الأنفس عند قول "لا", الى جانب فرض علاقات اقليمية ودولية تزج به –اي بالشعب- في اطار مشروع امبريالي صهيوني سمي بالشرق الأوسط الكبير لذلك نلحظ اليوم أهمية الدعم الذي تلقاه الثورة المضادة اقليميا من أطراف تخشى من ارتدادات ثورة الكرامة عليها وقوى دولية مسكونة بنزعة استعمارية تخشى على نقطة ارتكازها في المنطقة والمتمثلة في الكيان الصهيوني, هذا الكيان الذي عرف شيئا من تلك الارتدادات عند محاولته الأخيرة شن حرب على غزة.
انه لمن الواضح الان أنه كلما تقدم الشعب من خلال الشرعية التي جسدها في المجلس التأسيسي والحكومة التي انبثقت عنه في انجاز الدستور ومحاسبة ومساءلة الفاسدين كلما زادت الثورة المضادة شراسة في محاولة لتعطيل اتمام الدستور والشروع في بناء الدولة الديمقراطية. وعلى الحكومة – مهما كان لونها- أن تعي جيدا وبعمق أنها تستمد شرعيتها من الشعب وهي بالضرورة نتاج ثورة شعب والثورة تعني القطع مع الماضي الاستبدادي والتأسيس لمستقبل الإنسان/ المواطن ولا يكون ذلك التأسيس إلا بالقطع مع التردد لأن "اليد المرتعشة لا تصنع التاريخ" والثورات فعل في عمق التاريخ.