سياسة

الإعلام .. الثورة و الثورة المضادة .. الواقع و التحديات

مراد الشارني | الأحد، 5 أفريل، 2015 على الساعة 14:13 | عدد الزيارات : 5089
تساءل كثيرون عن حال الإعلام اليوم..وخاصة عن حالة اختلال التوازن في المشهد الإعلامي لصالح منظومة إعلامية قديمة ، تمت إعادة "هيكلتها" لتقوم بنفس الأدوار، و تؤمن "غطاءا" إعلاميا للفاسدين و الإستئصاليين ، الذين أعادوا "الانتشار" بعد الثورة..و تموقعوا داخل السلطة و خارجها ، مقابل إعلام "جديد" يبحث عن مكان في الساحة، و يتبنى الإعلام "البديل" مقولات و قيم الثورة من حرية و عدالة ، و "ينحاز" في سياساته التحريرية للانتقال الديمقراطي.

يجب الاعتراف، بأن "الماكينة" الإعلامية "القديمة-الجديدة" ، و بعد أكثر من أربع سنوات من اندلاع الثورة ، لازالت تحافظ على مراتب الصدارة في نسب المشاهدة و الاستماع بالنسبة للإعلام السمعي البصري ، و أكثر العناوين رواجا و انتشارا بالنسبة للصحافة المكتوبة ، و نعتمد هنا على الأرقام و الإحصائيات التي تنشرها - بشكل دوري - الشركات و المواقع المتخصصة في هذا المجال (audimat..sigma conseil…)..و حتى إن أخذنا بعين الاعتبار "عدم استقلالية" شركات سبر الآراء بشكل عام و تلك المتخصصة في قيس و حساب نسب متابعة المؤسسات الإعلامية على وجه الخصوص ..فلا يمكن أن "نقفز" على حقيقة أن إعلام الثورة المضادة يتابعه التونسيون أكثر من "إعلام الثورة" !

وهنا تطرح الأسئلة : لماذا يحقق الإعلام الذي وضعت أسسه و "ميكانيزمات" عمله الأساسية "وكالة الاتصال الخارجي" المنحلة – رغم تواضع مضمونه و سقطاته المهنية و الأخلاقية المتكررة – "تقدما" من حيث نسب المتابعة على حساب إعلام "بديل" يقدم – رغم بعض الأخطاء – "منتوجا" إعلاميا متوازنا و مهنيا ؟

لماذا يشاهد التونسيون – باستمرار – وجوها إعلامية كالحة لها "أرشيف" أسود في مجال الدعاية السوداء للسلطة و تبرير جرائمها و تزييف الوعي الجمعي و تعفين المشهد الإعلامي..مقابل تجاهل نسبي لوجوه إعلامية جديدة ، شابة ، و متحمسة لخدمة قضايا المجتمع و البلاد و إنارة الرأي العام عبر خطاب إعلامي يحترم أخلاقيات المهنة ؟

لا ندعي أننا نمتلك القدرة على تقديم إجابات مباشرة و "دقيقة" عن هذه الأسئلة..فالأمر مركب و متشعب ، و لا يمكن للقراءات المتسرعة و "الانطباعية" للمشهد الإعلامي أن تضيف شيئا.. فالإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تتطلب بحث علمي من قبل المختصين وعمل جدي من مراكز البحوث في المجال الإعلامي ( إن وجدت)..لكننا سنحاول تفكيك "شيفرة" منظومة الدعاية للثورة المضادة من خلال الوقوف على نقاط قوتها و نقاط ضعف المنظومة المقابلة أو "المنافسة" لها و هي منظومة الإعلام الجديد أو "البديل" ، و سنكتفي في هذا الصدد بالإعلام السمعي البصري نظرا لأهميته - بالمقارنة مع الصحافة المكتوبة الموجهة أساسا للمثقفين- و قدرته على التوجيه و التأثير في "الجمهور" بكل شرائحه .

 

المال قوام الأعمال

لا يختلف اثنان ، اليوم ، على أن المال هو العصب الذي "يحرك" المؤسسات الإعلامية ، عمومية كانت أو خاصة ، و يتحكم في كل مفاصلها ،.. و ببساطة "على قد فلوسك..تكون شاشتك أو إذاعتك". وهنا ، لا يمكن المقارنة بين ما ضُخ و يُضخ (من الداخل و من الخارج) في "ميزانيات" المؤسسات الإعلامية (القديمة و الجديدة) المحسوبة على النظام القديم بكل "روافده" ( فاسدون..انتهازيون..إستئصاليون) و ما تمتلكه المؤسسات الإعلامية "البديلة" من إمكانيات مادية متواضعة ، إن ضمنت "الاستمرار" و "البقاء" لهذه المؤسسات ، فهي لا تمكنها من التطوير و اكتساب قدرات تنافسية حتى تواجه "إمبراطورية عبد الوهاب عبد الله العريقة" !

 

الخبرة

صحيح أنه لا يمكن الحديث عن خبرة صحفية و لا مهنية إعلامية لأغلب المشرفين على المؤسسات الإعلامية المعروفة في البلاد..كما أن أغلب الوجوه "المتصدرة" للشاشات و الإذاعات ، من إعلاميين و مقدمي برامج و "محللين" ، دخلوا الميدان ليس بما يمتلكونه من سير ذاتية في الميدان ، و لا بقدراتهم "الصحفية و الإعلامية" بل عبر "معابر" النظام سابقا و "قنوات" الثورة المضادة بعد 14 جانفي (مع بعض الاستثناءات)..لكن هذا لا ينفي وجود كفاءات و خبرات في "كواليس" المؤسسات المحسوبة على النظام القديم..مكنتها من تحقيق "نجاحات" خاصة على مستوى الشكل..وطبعا هذا لا يعني بأي حال من الأحوال غياب الكفاءات في المؤسسات الإعلامية الناشئة و المناصرة للثورة و الانتقال الديمقراطي لكنها تبقى طاقات شبابية بحاجة للدعم و التكوين و مراكمة التجربة..

 

الدولة العميقة تدعم "إعلامها" !

الصحافة و الإعلام مجال "احتراف" التصرف في المعلومة بامتياز..إن كان بالبحث عنها أو تحليلها و قراءة مختلف أبعادها أو "تسويقها"...وجزء كبير من مصادر "المعلومة" ، خاصة في علاقة "بالبيت الداخلي" التونسي بما فيه من توازنات و تجاذبات "تحتكره" الإدارة و الدولة العميقة..و يتم تزويد مؤسسات إعلامية بعينها - دون غيرها - بالمعلومة إما بشكل مباشر أو في شكل تسريبات عبر أفراد أو مجموعات (بعض النقابات) تلتقي مصالحها موضوعيا مع مصالح الثورة المضادة و إعلامها.

و لعل من بين أسباب تفوق الإعلام المضاد للثورة في هذا المجال هو "خبرة" بعض الإعلاميين الذين كانوا مكلفين في عهد الاستبداد "بالتصرف في المعلومة" لصالح النظام بعد أن تم "تكوينهم" و "تأطيرهم" ثم زرعهم في مفاصل الدولة (تصريحات برهان بسيس أحد رموز منظومة الدعاية لنظام بن علي في برنامج "لمن يجرؤ" الذي أكد أن أغلب "النجوم" و الوجوه المتصدرة للساحة الإعلامية اليوم تكونت في أجهزة و مؤسسات النظام و خاصة في "وكالة الاتصال الخارجي")

 

الإعلام مضمون و رأي عام..لكن صناعة أيضا

المؤسسات الإعلامية "الناجحة" - من حيث الشكل- اليوم..فهمت ، ربما ، قبل غيرها من المؤسسات ، أن الإعلام صناعة قبل أن يكون مضمون و سياسة تحرير..هذه المؤسسات أدركت ، بحكم تجربة باعثيها (وهم رجال أعمال و "صناعة" بالأساس) أن الإعلام صورة ، إضاءة ، جرافيك ، صوت ، ديكور ، و بث عالي الجودة و إمكانيات إنتاج.

وهنا لا يمكن أن نحمل مؤسسات الإعلام المهني و "البديل" مسؤولية الضعف في هذا الجانب، لوجود عدة أسباب موضوعية تجعل من الإعلام القديم-الجديد "متفوق" في هذا المجال ولعل أهم هذه الأسباب :

  • المال ، كما ذكرنا من قبل ، و لعل الإشهار و مقاييس "توزيعه" بين الإذاعات و القنوات التلفزية أحد المؤشرات التي تساعد على معرفة الفارق في "توجهات التمويل" لبعض رجال الأعمال ( "ذريعة" أن الشركات و رجال الأعمال تتوجه – بمنطق الربح و الخسارة - للإشهار في المؤسسات الإعلامية التي تحقق أعلى نسب المشاهدة لم تعد مقنعة و لا تبرر "الحصار" المفروض على بعض القنوات التي تحقق بعض برامجها نسب مشاهدة محترمة مقابل دعم مالي لا مشروط عبر الإشهار في مؤسسات إعلامية معلومة التوجهات).
  • تعاون "تقني" و دعم بالتكوين من قنوات أجنبية فرنسية خاصة للمؤسسات الإعلامية المضادة للثورة (نكتفي هنا بالإشارة إلى أن ديكورات و إضاءة أغلب برامج قناة "الحوار التونسي" "التونسية" سابقا هي ديكورات و إضاءة برامج قناة (canal+) و يمكن القول أن قناة "الحوار التونسي" هي (canal+) الناطقة بالعربية مع فارق الحرفية و المهنية).
  • تمتع المؤسسات الإعلامية المحسوبة على النظام القديم – دون غيرها - "بامتياز" استغلال استوديوهات cactus "العملاقة" لتصوير و إنتاج البرامج ، في ظل الضبابية و انعدام الشفافية و التعتيم على "ملف "cactus و وضعيتها المالية و القانونية..
  • نشاط مباشر و غير مباشر "لزعماء إمبراطوريات إعلامية إقليمية" (طارق بن عمار..الأمير الوليد بن طلال) في المشهد الإعلامي التونسي.
  • عدم وضوح في ملف الإذاعات الخاصة المصادرة ، خاصة في ما يتعلق بمقاييس اختيار المتصرفين و المسؤولين الإداريين عليها و مقاييس تعيين المسؤولين عن التحرير فيها و من عينهم ؟
  • "الخبث" الإداري و القدرة على "التوظيف" و "شراء الذمم" و "التوجيه" و "التنسيق" للأطراف التي تشرف – من وراء الستار ربما – على اغلب المؤسسات الإعلامية التي تسوق لخطاب و تصورات شبكة المصالح و النفوذ القديمة بكل روافدها (رجال أعمال.سياسيون..نقابيون....)..و يمكن القول هنا أنه توجد مؤشرات عدة على أن هذه المؤسسات تتحرك في إطار و إستراتيجيات موحدة و تسيرها "مركزيا" جهة واحدة .

هذا جانب من واقع الإعلام السمعي و البصري كما نراه..و ربما نكون قد أغفلنا بعض الجوانب أو أخطأنا التقدير في أخرى..لكن هناك واقع و حقائق لا يمكن القفز عليها..و في ظل "فشل" الهيئة المسؤولة عن "تعديل" هذا القطاع (الهايكا) و انخراط بعض أعضائها في "لعبة السياسة و التوازنات"..يبقى الدور على أهل القطاع من مشرفين على المؤسسات الإعلامية - التي تحترم نفسها و تحترم وعي التونسيين - و صحفيين و تقنيين و إداريين المطالبون بالبحث عن تصور جديد حتى يتطور إعلام الكرامة و الحرية و العدالة و تتحسن قدرته على الأداء و يساهم في تحرير وعي التونسيين من عملية "التجهيل" و التظليل الممنهجة التي تمارسها منظومة إعلام الحنين للماضي الأسود.