سياسة

كلمة رئيس الجمهورية في الجزء رفيع المستوى من الدورة الخامسة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان

زووم تونيزيا | الاثنين، 3 مارس، 2014 على الساعة 12:37 | عدد الزيارات : 713
جنيف، 03 مارس 2014 بسم الله الرحمن الرحيم السيّد الرئيس، السيّد الأمين العام للأمم المتحدة، السيد رئيس…
لكنفدرالية السويسرية، السيّدة المفوّضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أصحاب المعالي والسعادة، حضرات السيّدات والسّادة، أريد في البداية أن أتوجه إليكم بأخلص التهاني بمناسبة انتخابكم رئيسا لمجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة ولبلدكم الصديق الغابون وان أثني على جهود المجلس في التصدي لانتهاكات تمسّ من حقوق البشر وتنتهك كرامة الإنسانية ككل. كما أودّ أن أعرب للسيد الأمين العام وللسيدة نافي بيلي عن امتنان تونس لوقوفهما الدائم بجانبنا وأن أشكر جزيل الشكر كافة الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الدولية والإقليمية وغير الحكومية التي ساندت الثورة التونسية ودعمت مرحلة الانتقال الديمقراطي. أريد أيضا تثمين جهود منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختصة وبصفة عامة مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان بصفة خاصة في مساندة المسار الانتقالي لاسيما عبر التعاون الوثيق القائم بين الحكومة التونسية ومكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان بتونس في العديد من المجالات خاصة فيما يتصل بإصلاح المنظومتين القضائية والأمنية. السيدات والسادة إن تونس بخير، فقد غلبت فيها سُنة الحوار وأظهرت كل الأطراف السياسية الكثير من الحكمة والتعقل واستطعنا تكوين حكومة وفاق وطني لتنهي المرحلة الانتقالية بانتخابات ستكون دون شك حرة وشفافة قبل نهاية هذه السنة، كل هذا في ظل الدستور التوافقي الذي هو أولى انجازات الثورة. اسمحوا لي أن أقدم لكم بكل فخر واعتزاز هذا الكتيب الذي وضعنا فيه نحن التونسيون والتونسيات كل آمالنا... دستورنا المعترف بكل الحريات والحقوق الفردية والجماعية التي تناضل من أجلها حركة حقوق الإنسان العالمية. إنه نص مشبّع بمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقد أردناه العقد السياسي والاجتماعي والأخلاقي لهذا الجيل وللأجيال المقبلة، الضامن للحريات الفردية والجماعية والمؤسس للآليات الضرورية لبناء دولة ديمقراطية حقيقية. هو وليد تضحيات توّجتها ثورة 17 ديسمبر 2010 ... تضحيات امتدت قرابة نصف قرن لعبت فيها حركة حقوق الإنسان دورا مشرّفا. الظاهرة المثيرة في الثورة التونسية بخصوص حقوق الإنسان أنها أعادت خلط الأوراق بكيفية تجعل ما يحصل في بلادنا منذ ثلاثة سنوات تجربة قد تتضح يوما أهمية نجاحها أو لا قدّر الله خطورة فشلها. لقد أدّت هذه الثورة إلى وضعية إلى حدّ ما غريبة حيث أن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان على امتداد أكثر من ثلاثة عقود هم الذين أصبحوا في كل مراكز القرار. المفارقة الثانية هي الوضع الجديد لحركة حقوق الإنسان التونسية التي تشكّلت أساسا على مناهضة الدولة الاستبدادية وها هي اليوم مطالبة بإيجاد علاقات جديدة مع سلطة هي في نفس الوقت امتداد عضوي لها ومن ثمة يجب التعامل معها إيجابيا، لكنها ككل سلطة قادرة على الخطأ وحتى على التنكّر باسم الواقعية السياسية للمبادئ التي أوصلتها للسلطة. أهمّ من هذا كلّه إن الذين قاموا بالثورة كانوا الفقراء والمهمّشين . هم الذين سالت دمائهم وقدموا الجرحى والشهداء للمطالبة بحقهم في التنمية والشغل والسكن والصحة. لكن الثورة لم تستطع لحدّ الآن إلا منح الحقوق السياسية خاصة حرية الرأي والتعبير والتنظم والسفر والمشاركة في الشأن السياسي وكلها حقوق أضيفت للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تتمتع بها تحت الاستبداد الأقلية الميسورة. هذا ما سيطرح علينا قضية الأولويات الجديدة من هنا فصاعدا. أخيرا وليس آخرا هناك التحديات الخارجية، فالساهرون اليوم على مصير البلاد والثورة مطالبون بمراعاة مصالح الدولة في علاقاتها مع محيطها في الوقت الذي لا يستطيعون التنكّر للمبادئ التي أوصلتهم للسلطة والتي قامت من أجلها الثورة. سيداتي وسادتي أمام هذه التحديات والصعوبات اختارت السلطة التي لي الشرف بتمثيلها أصعب الخيارات. نحن أكثر من أي وقت مضى متمسكون بحرية الرأي والتعبير ولن تثنينا عن هذا الخيار كل التجاوزات ودوافعها السياسية . لقد ردّدتُ أكثر من مرّة أن سلبيات الحرية أحسن ألف مرة من ''إيجابيات'' الحدّ منها والتضييق عليها. لذلك نحن لم نوقف صحيفة واحدة ولم نغلق تلفزيونا واحدا ولم نسجن صحفيا واحدا ولن نفعل شيئا من هذا. إننا نراهن على ذكاء شعبنا للتفريق بين الغثّ والسمين، كما نراهن على الإعلاميين المهنيين وعلى كل آليات إصلاح الخلل من داخل المنظومة الإعلامية نفسها. إنه نفس الرهان بالنسبة للقضاء لأننا على أتمّ الثقة أنه سيصل إلى نقطة التوازن الضرورية لمصداقيته محققا استقلالا فعليا عن السلطة والمعارضة ورأس المال ومؤديا بهذا دوره الكبير في بناء الحوكمة الرشيدة والمجتمع الديمقراطي . بخصوص التجاوزات التي تحصل من جهاز أمن استعاد عافيته وأصبح أمنا جمهوريا يحمي الشرعية، نحن نفخر بانضباطه ومهنيته ونقدّر ما قدّم ويقدّم من تضحيات ومجهودات جبارة في محاربة الجريمة والإرهاب، لكنني قُلت وردّدت أن الدولة، حفاظا على شرف السلك وعلى وظيفتها ومثلها العليا، لن تسكت عن أي انتهاكات وأن الحرب ضدّ الإرهاب لن تكون تبريرا لعودة الأساليب البغيضة التي عانينا منها جميعا. لقد أدنتُ وأُدين بمنتهى الشدّة أي إفراط في استعمال العنف والتعدي على كرامة أي مواطن حتى ولو تهجّم على أجهزة الأمن، فمسؤولية عقابه مسؤولية القضاء لا غير. هذه الرسالة سُمعت من الأغلبية الساحقة لكن أقلية ما زالت عاجزة عن التخلص من عاداتها القديمة المكتسبة تحت الدكتاتورية . لقد طالبت وسأطلب من مجالس التأديب التي لم تتوقف منذ الثورة الزيادة في وتيرة عملها لكي نتخلّص أكثر فأكثر من رواسب عهد نريد القطع معه ومع ممارساته المشينة نهائيا. بخصوص دور منظمات حقوق الإنسان، التحدي أمامها المحافظة على استقلالها هي الأخرى تجاه النظام ومعارضيه وخاصة الانتقال من وضعية الخصم إلى وضعية الشريك. إن إحدى أهمّ التغييرات في نظامنا السياسي أن الدولة تبحث عن الشراكة في كل مجال مع القطاع الخاص ومع منظمات المجتمع المدني التي يسعدني اليوم أن أرى تكاثرها وحيويتها. وفي هذا الإطار، على منظمات حقوق الإنسان أن تصبح أكثر تخصصا وأكثر مهنية لتشارك السلطة في تشخيص الانتهاكات واقتراح الحلول القانونية والسياسية والاقتصادية. هذا ما يحملني للحديث عن ضرورة إعادة جدولة الأولويات بخصوص حقوق الإنسان . لا أحد يهدّد حاليا داخل الدولة الحقوق السياسية وهي ركيزة برنامجها على الأمد القصير والطويل، لكن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي التي يجب أن توضع أكثر من أي وقت مضى في مركز الصدارة، ودور المجتمع المدني وخاصة منظمات حقوق الإنسان، هو العمل مع الدولة لإخراج عشرين في المائة من التونسيين من الفقر المشين الذي خلفته عقود من الفساد والتهميش والظلم الاجتماعي . وعلى الصعيد الخارجي، تونس لا تدّعي أنها نموذج ولا تريد تصدير ثورتها لكنها دولة مستقلّة ذات سيادة ونظامها مبني على القيم التي نشترك فيها جميعا، وبالتالي فإنها ستدين دوما العنف ضدّ الشعوب وستدعو للحوار بين الأطراف السياسية المتنازعة. وقد أظهرت تجربتها المتواضعة أنه لا أمن ولا استقرار ولا ازدهار لأي شعب إن لم تكن منهجية وأخلاقية هذا الحوار أولى الأولويات بالنسبة لأي طبقة سياسية ناضجة ومسؤولة. إن تونس عازمة أكثر من أي وقت مضى على تطوير علاقاتها بالمؤسسات الأممية والالتزام بكل مبادئ الأمم المتحدة وبكل المواثيق والمعاهدات الدولية المنظمة لحقوق الإنسان. إن تونس تنخرط فيها بلا تحفّظ لذلك سحبت نهائيا التحفظات على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة. نحن متمسكون بالقيم العظمى لديننا الإسلامي لكن نرفض بشدة القراءات الضيقة له واللجوء إلى تعلّة الخصوصيات الثقافية التي كانت دوما حجة للأنظمة الاستبدادية لانتهاك حقوق الإنسان أو للحدّ منها . إن كل خصوصية ثقافية لا تحترم هذه الحقوق ولا تسعى لتنميتها وتوسيعها لا تستأهل أن نتمسك بها، بل قد تكون مخالفتها للمستوى المطلوب عالميا من ممارسة الحقوق والحريات المؤشر الأكبر على تخلفها وعلى ضرورة تجاوزها. لقد كانت قناعتي أن الخصوصية ليست نقيض العالمية، وإنما أن العالمية هي الخصوصية الناجحة ونجاحها هذا هو الذي يجعل البشر يتهافتون عليها. وبالتالي فمن يريد إعلاء خصوصيته هو الذي يرفع فيها نسبة الإنسانية والعالمية ليجعلها هدية ثقافته للبشرية جمعاء. أما من ينغلق ويتقوقع حول معتقدات وتصرفات تجاوزها تطوّر العالم فهو لا يفعل إلا الإضرار بالخصوصية والعالمية على حدّ السواء. لقد كانت هذه الخصوصية دوما التبرير السهل للدكتاتورية والرجعية للتصدي لحقوق الإنسان أو للتنقيص منها، لكني أقول بكل وضوح أن أهمّ شيء هو تطوير حقوق وحريات كل العرب والمسلمين، فإن تماشت هذه الخصوصية أو تلك مع المشروع العظيم فليكن وإلا فلتندثر غير مأسوف عليها. سيداتي وسادتي إن ما يجري في بلدي منذ انطلاق الثورة التي فجّرت الربيع العربي تجربة تاريخية أخرى تحاول فيها مجموعة بشرية تلمّس طريقها نحو الاستقرار والازدهار وبناء مجتمع حرّ وتعددي ودولة ديمقراطية، وذلك عبر الحوار ولا شيء غير الحوار وقد اتضحت له عبثية العنف في السياسة . نحن نجرّب أيضا تعريب وأسلمة الديمقراطية مثلما نجرّب دمقرطة العروبة والإسلام السياسي. مثل هذه التجربة التي لها من الآن انعكاسات خارج حدودنا، ولو أن هذا لم يكن يوما هدفنا، أقول هذه التجربة التي لا زالت في بدايتها بحاجة لدعمكم، أي لنقدكم ونصائحكم وتجربتكم وتشجيعكم. وفي الختام اسمحوا لي أن أتمنى للمفوضية السامية مزيدا من النجاح آملا في خضمّ المشاكل الكثيرة والخطيرة أن تجعل من حقوق المهاجرين ضحايا الفقر والاستبداد أولوية مطلقة وكذلك حقوق الفلسطينيين خاصة في غزّة وحقوق الملايين من المنكوبين في سوريا الشقيقة. شكرا على كل ما قدّمتم لنا في الماضي ونحن نناضل لتدمير الاستبداد، شكرا لما ستقدّمون لنا ونحن نناضل لنبني لكم ولنا في تونس وطنا للإنسان. والسلام عليكم.

لطفي المرايحي ينفي إيقافه

السبت، 12 نوفمبر، 2022 - 22:25