سياسة

قراءة في كتاب" رجب طيب أردوغان: قصة زعيم "

زووم تونيزيا | الثلاثاء، 19 مارس، 2013 على الساعة 15:49 | عدد الزيارات : 2241
إذا أردنا أن نلخص بكلمة قيمة كتاب: "رجب طيب أردوغان:قصة زعيم" فإننا لن نملك أن نقول عنه إلا إنه "مانفستو"…
لزعماء والعظماء في تاريخ البشرية، ومنارة هادية لكل القادة السياسيين والزعماء الكاريزميين الذين يطمحون لتحقيق مكانتهم وسط الشعوب. يعتبر هذا الكتاب، من أهم الكتب التي صدرت في مطلع  سنة (2012)، لأنه محكوم بسياق غير عادي، ذلك أنه يحكي قصة زعيم إسلامي استطاع أن يحقق إنجازات عظيمة في بلد العلمانية والحكم العسكري، وحيث أنه من العسير أن يستطيع شاب نشأ في بيئة فقيرة أن يخترق المجال المحروس لسدنة النظام الجمهوري العلماني المعادي لكل النزوعات السياسية الدينية في تركيا. قصة طيب رجب أردوغان فيها من الدروس والعبر الشيء الكثير، فهي تقربنا من شخصية جريئة ومقدامة ومن شخصية تدرجت في العمل السياسي والنضال الوطني في وقت مبكر من حياتها، ولهذا فهي تبرز لنا قصة مسار سياسي حافل لشخصية فذة مثل "طيب رجب اردوغان". لكن أهم ما تضمنته هذه السيرة غير الذاتية، هو تقديم نموذج يحتذى به من طرف كل النخب الشابة، حيث يبرز مدى صموده في مبادئه ولو كلفه ذلك السجن، وقدرته على ابتكار الحلول والاستراتيجيات الذكية للتواصل الخلاق مع الجماهير الشعبية. تبين هذه القصة سيرة شخص استطاع تحقيق نجاح باهر في العمل السياسي، إذ تدرج من مسؤول على العمل الشبابي/ الطلابي في حزب السلامة الوطني إلى رئيس للوزراء في أعرق دولة تجمع بين سحر الغرب وجمالية الشرق. يهدف هذا الكتاب إلى تقديم سيرة عن زعيم سياسي تدرج في العمل النضالي منذ صغر سنه، إلى أن أصبح رئيس وزراء لدولة عريقة، لكن الأهم من ذلك، هو أن الكتاب يقدم رسالة قوية ذات دلالات عميقة، مفادها: كيف يمكن للنموذج الإسلامي المنفتح والمرن أن يضمن تأييد الجماهير وأن يتسلل لقلوب الناس قبل أصواتهم، وأن يقدم الدليل على مدى قدرة الفكر الحضاري على الإبداع والتطوير والتجديد، وبشكل خاص على إمكانية إرجاع الثقة والأمل في نفوس الشعب. إن هذا الكتاب يعد في نظرنا، وثيقة علمية وسياسية هامة نقرأ فيها، ليس سيرة زعيم، بل حقبة تاريخية للدولة التركية، ومخاضها الطويل في سبيل إقرار أعراف ديمقراطية ناضجة. ربما لا تخفى أهمية الكتاب في سياقنا السيوسو- تاريخي الذي تجتازه البلدان العربية، خصوصا بعد ما سمي "بالربيع الديمقراطي" ودخولها مرحلة بناء الدولة، مع كل ما تتطلبه المرحلة من يقظة والتقاط ذكي لمختلف التجارب والأحداث والمواقف، قصد الاستفادة منها، وتوجيهيها في خدمة مشروع الدولة المعاصرة. من الناحية المنهجية، لا يتضمن الكتاب فصولا أو أقسام للدراسة، فهو بعيد عن هذا التقليد الأكاديمي الصارم، بل إن مؤلفا الكتاب، انتهجا السرد القصصي المعزز بالشواهد التوثيقية، مع تطعيم ذلك بتحاليل سياسية، متضمنا لآراء بعض الزعماء والقادة السياسيين. ولهذا فالكتاب يصعب تلخيصه أو تقديمه للقارئ، دونما وضع محاور منسجمة، وعليه نقترح في هذه القراءة أن نتناول ثلاثة لحظات أساسية في تاريخ هذه الشخصية العظيمة. أولا: الطفولة والدراسة: يمكن القول أن نشأة "رجب طيب أردوغان" تميزت بكونها نشأة غير عادية، حيث برزت معالم النبوغ في سن مبكرة من حياته، حيث أنه في ذات مرة قام بإنجاز عروض شعرية متميزة في المدرسة الابتدائية، وما كان من مديرها إلا أن يستدعي أباه "أحمد أردوغان" لكي يوصيه بابنه خيرا. تدرج "طيب رجب" في مساره التعليمي، من خريج لمدرسة الأئمة والخطباء، وقد كانت هذه المدرسة عاملا حاسما في صقل شخصية هذا الزعيم، حيث تملك خبرة في المحاورة والقناع والتخاطب مع الجماهير. بعد ذلك سيلتحق بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية، ليتخرج منها بدبلوم جامعي سنة 1981. ولعه بكرة القدم لم يمنعه من المشاركة القوية في العمل السياسي، حيث تولى رئاسة جناح الشباب بحزب السلامة الوطني، وهو لا زال في سن 22 من عمره، وقد تدرج في المسؤولية الحزبية، ورغم حداثة سنه، فقد أثبت قدرته على تحمل المسؤوليات الكبيرة، وأيضا قدرته على التأثير في الجماهير والحشود، وتمكنه من حشد مجموعة من الطاقات الشابة من حوله. ما يمكن استخلاصه في هذه المرحلة، هو أن الزعيم "رجب طيب أردوغان"، بالإضافة إلى تكوينه العلمي والمعرفي وقدرته على التأثير والخطابة، فإنه كان يحمل في طياته الإنسان المتخلق بأخلاق القرآن وبسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعلاقته بالشعب علاقة جد قوية، لدرجة أنك تنسى أنه رئيس أكبر حزب في تركيا، وأنه زعيم كاريزمي في القرن الواحد والعشرين، حمل شعار "خدمة الشعب طاعة للحق". ورغم أنه شعار يرفعه الكثير من السياسيين، فإن أردوغان مارسه عمليا، والكتاب يتحدث عن عدة مواقف تجسد فيها هذا الشعار، أو لنقل المبدأ. ولهذا يمكن القول أن سلوكيات وتصرفات "أردوغان" تجاه متطلبات الشعب واحتياجاته تنطلق لديه من مبدأ الصدق والإخلاص، وهي الصفات التي جعلته زعيما كاريزميا حقيقيا، وحققت له التوافق والانسجام مع شعبه. في فترة السبعينيات من القرن الماضي، عرف فكر أردوغان تحولا نوعيا، إذ أنه لم ينجر مع الصراعات التي نشبت بين اليمين واليسار، بل إنه وجيله استطاعوا العمل في دائرة المدافعة الثقافية والقيمية، والتي كانت مدخلا لإقناع العديد من الفئات الشابة في ذلك الحين، بقيمة الانتماء لقيم وحضارة الأمة التركية، وهكذا تم تشكيل وعي سياسي جديد. والذي استمده من المشروع الحضاري الإسلامي، فقد تربى جيله على مفاهيم إسلامية تمتح من التراث الاخواني الحركي التغييري، مثل كتب "سيد قطب" و"وأبو الأعلى المودودي"، وغيرهم، وقد شكلت هذه الثقافة حصنا منع كل انزلاق نحو التورط في صدامات ومعارك مع التيارات اليمينية واليسارية والقومية. ثانيا: اردوغان وبداية التمرس بالعمل السياسي في ظل مرحلة الانتقال الديمقراطي: عرفت مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، تحولات عميقة في المشهد السياسي التركي، إذ بدأ النظام الحاكم العلماني ومعه النخبة العسكرية، في التفكير في آليات لمواجهة المد الإسلامي متمثلا في حزب الرفاه التركي الذي دخل غمار الانتخابات البلدية، وبدأ يحقق نتائج جد هامة، وقد كان النظام يشعر بالخطر، لهذا قام بمجموعة من الإجراءات سواء منها الظاهرة أو المبطنة من أجل الحيلولة دون تقدم الحزب الإسلامي، في هذا السياق، سيتقدم "أردوغان" للترشح في بلدية "باي أوغلو"سنة 1989، نظرا لديناميته وحيويته وقدرته الفائقة على التحرك، لأنه كان يؤمن بقناعة أن حزبه (الرفاه) بزعامة "نجم الدين أربكان" يمكن أن يحصل على نتائج أفضل مما هي عليه، شريطة هدم الحواجز التي كان يضعها أعضاء الحزب بينهم وبين الشعب. دخل أردوغان مغامرة للترشح في بلدية تحفل بمختلف التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الإيديولوجية، وهي مدينة لا تتواجد بها شريحة قوية من المتدينين، التي تعد الخزان الحيوي للحزب، بل إن المدينة تعتبر خليطا من التوجهات الفكرية والدينية واللادينية الشديدة التنوع. لكن بالرغم من هذه العقبات، سيمضي أردوغان في مخططه للترشح في المدينة. للإشارة فقد تميزت الحملة الانتخابية لهذا الزعيم الواعد، بكونها تجديدية وجريئة في وسائلها وخطابها، إذ لأول مرة في تاريخ الانتخابات التي باشرها حزب الرفاه، يتم الاستعانة بمساعدة بعض الفتيات غير المحجبات .. لايمان أردوغان أنه يجب على رجل السياسة أن يكون منفتحا على جميع شرائح المجتمع. ورغم الحركية القوية التي مرت فيها أجواء الانتخابات، فإن النتيجة كانت معاكسة لإرادة الناخبين، حيث تدخل الجهاز الرسمي في النتائج، وتلاعب بجزء منها، وبالتالي حرمان "طيب رجب أردوغان" من منصب رئيس بلدية. ويمكن فهم هذا التلاعب انطلاقا من التوجهات السياسية للحكومة التركية في هذه الفترة،تسعينيات القرن الماضي، والتي كانت مشدودة للتوجه العلماني الراديكالي، والذي كان يعتبر أن السماح بدخول الإسلاميين للحكم سوف يعمل على تقويض صرح العلمانية الذي أسسه "أتاتورك". وقد ترتب عن هذه المحطة أن زج بأردوغان في السجن، في المرة الأولى بعد اعتراضه على قاضي المجلس الانتخابي لدائرة "باي أوغلو" الذي أعلن عن نتائج مختلفة عما كان متوقعا. علاوة على تجريده من عضويته كنائب برلماني، بعدما تقدم أحد المنافسين السياسيين، بطعن للهيئة العليا للانتخابات. من خلال ذلك يمكن أن نقارن هذه الواقعة، مع ما تعرضت له الأحزاب ذات التوجه الإسلامي، سواء في الوطن العربي أو الاسلامي، من التضييق، والمنع تارة أخرى، والتزوير في الاستحقاقات الانتخابية كما حدث في بعض بلدان العالم العربي، ليست إلا نماذج شاهدة على هذا الوضع. وفي 28 فبراير/شباط من العام 1997، ستقوم حكومة الأقلية، بانقلاب على الديمقراطية في تركيا، وبالتالي حرمان حزب الرفاه الذي فاز بسبعة ملايين صوت، وقد امتد الأمر إلى إغلاق هذا الحزب، بهدف إضعافه وتهميشه. وفي هذه المرحلة سيسجن "أردوغان " مرة ثانية بسبب أبيات شعرية ألقاها في إحدى التجمعات الخطابية التي حضرها في مدينة (سيرت). لا يمكن فهم جزء من مسار زعيم سياسي كرجب طيب أردوغان، إلا بالخوص في السياق الذي عاشه وعايشه، فمرحلة التسعينيات من القرن الماضي، اتسمت بتشديد الخناق على حزب الرفاه كما بينا وعلى زعمائه البارزين ومن بينهم الزعيم الملهم، "أردوغان". إلا أن هذا الزعيم سوف يتغلب على هذه المحن، وسيعمل على تحقيق انتصار شعبي من خلال ترشحه لبلدية أكبر مدينة في تركيا: إستانبول المدينة ذات 12 مليون ساكنة، فكيف تمكن أردوغان من الانتصار؟ وما هي الانجازات التي حققها لهذه المدينة؟ ثالثا: أردوغان رئيسا لبلدية إستطنبول، (مرحلة الشهرة وتحقيق الزعامة السياسية): شكل ترشح أردوغان لرئاسة بلدية استنبول الكبرى عام 1994، منعطفا ثانيا على درجة بالغة الأهمية، نظرا لأنه مكن الرجل من صقل تفكيره ومكانته السياسية بشكل كلي، وتحول من المستوى المحلي إلى المستوى العالمي، كما ظهر كسياسي محنك له رؤية خاصة." من خلال تتبع سيرة هذا الزعيم، يتبن كيف استطاع هذا الرجل أن يحل أهم المشاكل التي كانت تعاني منها اسطنبول، فمن خلال ما عرف ب"نظرية الفراشة" أي العمل النوعي والهادف رغم بساطته وقلته، قدم أردوغان نموذجا لرجل السياسة الذي يعرف كيف يصنع التغيير التدرجي والتراكمي والبناء، من خلال مشاريع نوعية وضخمة وذات آثار بعيدة على حياة الناس والمجتمع. باستلهامه لهذه النظرية في العمل، استطاع أردوغان أن يقتحم تجربة رئاسة أكبر بلدية في تركيا، وأن يحقق ما عجز عنه الآخرون. فاسطنبول كانت غارقة في الأزبال لدرجة لا تتصور، وأيضا كان السكان يعانون من رداءة جودة المياه، ومن الزحام في الشوارع ، وما يترتب عن ذلك من تلوث للبيئة وللإنسان، ومن ديون متراكمة، وفساد مالي كبير، ومن إهمال للتراث التاريخي الذي تزخر به المدينة الأسطورية، لدرجة أن أصبحت المدينة كأنها مريض على فراش الموت. في ظل هذه الوضعية المزرية التي تعيشها اسطنبول، سيتولى طيب رجب أردوغان رئاستها بعد فوزه في الانتخابات البلدية، وقد قدم برنامجا سياسيا تنمويا طموحا، سهر على إعداد نخبة من الخبراء والباحثين الذين كانوا يشتغلون برفقة السيد أردوغان. وقد تمكن هذا الزعيم من خلال هذا البرنامج ومن خلال الدعم الشعبي، أن يحقق لاسطنبول معجزة في ظرف وجيز، فبعد 100 يوم من توليه المسؤولية سيعيد الروح والأمل لها. فمشكلة تلوث المياه التي طالما عانى منها السكان، وجدت حلها عن طريق إنشاء "خط الإسالة" وهو مشروع ضخم لإدارة المياه والصرف الصحي،علاوة على تمكن أردوغان من إقامة أول محطة لمعالجة المياه العادمة حتى يتجنب كل الأضرار الجانبية التي يمكن أن تلحق بالبيئة. ومن بين المشاكل العويصة التي كانت تتخبط فيها اسطنبول، مشكلة تلوث مياه البوسفور، وهكذا تم التفكير في مشروع لانقاد البوسفور، من خلال إقامة خط "الإسالة المعدني ومركز للتنقية البيولوجية للمياه المستعملة". ولم يكتف أردوغان بالاهتمام بمشكلة المياه، بل انكب على إبراز التراث التاريخي لمدينة اسطنبول، حيث خصص اعتمادات مهمة لاعادة إحياء كل المعالم التاريخية التي تزخر بها المدينة، وقد كان هذا الاستثمار قرارا استراتيجيا، لأنه سيمكن بلدية اسطنبول من عوائد سياحية وتنموية كبيرة جدا، فاسطنبول تعد الآن واحدة من المدن الساحرة في العالم. ربما يطرح السؤال كيف حقق أردوغان هذه الانجازات في ظل فترة وجيزة من توليه المسؤولية؟ ليس هناك مجال لمعجزات أو حظ تاريخي ما، بل إن الأمر توقف على طبيعة الشخصية التي يتمتع بها هذا الزعيم، الذي رفع من جاهزية موظفيه إلى أقصى درجاتها، وتتبعه للأعمال بدقة متناهية، وتوظيفه لخبراء أكفاء في مجال تدبير الأزمات، إذ أن كل إشكالية تطرأ أثناء العمل إلا ويتدخل الرئيس ليحلها بكل حرفية ومهنية. فمثلا عندما تعثر مشروع إنجاز "الميترو" فإنه توجه لعين المكان ليتابع سير الأشغال، وطلب التوضيحات، وقد وجد السبب هو وجود تخوف من الشركة من عدم أخذها مستحقاتها في الآجال المحددة، وهذا ما دفع أردوغان إلى طمأنة المسؤولين بانهم فور انتهائهم من الأشغال ستكون المستحقات جاهزة. يستخلص مما سبق أن الأعمال الضخمة التي أنجزت في بلدية اسطنبول برئاسة أردوغان، لم تكن لترى النور لولا النهج الديمقراطي الذي تحلى به الرئيس وأيضا تمتعه بالنزاهة الأخلاقية والخبرة العملية المسنودة بالمعرفة العلمية، ولكن أهم معطى ساهم في هذا النجاح، هو الثقة التي يحظى بها من طرف السكان، إذ شكلت عنصر دعم للمشروعات الإصلاحية التي باشرها الرئيس طيب رجب أردوغان. لم تكن هذه الانجازات لتمر هكذا، فقد تحركت الآلة التسلطية للدولة، لتسقط رئاسة البلدية عن طيب رجب أردوغان، وذلك تنفيذا لقرار ديوان المحاكمات، وهو قرار جاء نتيجة خوف النظام من انتشار سمعة أردوغان، وقد كان يعرف أن هذا القرار سياسي بامتياز حيث يقول أردوغان" "إن منافسينا وأصحاب المصالح والقوى الذين يعرفون أنفسهم جيدا لا بد وأنهم قد فطنوا إلى أنهم لن يستطيعوا أن يتخطونا داخل صناديق الانتخابات، وأنهم لن يتمكنوا كذلك من قتل مستقبلنا، لذا سلكوا مسلكا على هذا النحو. وأصحاب المصالح هؤلاء للأسف الشديد لم يروا غضاضة من أن يجعلوا القانون الذي هو حاجتنا جميعا آلة لأفكارهم المصلحية ورغباتهم الدنيئة". إلا أن مجريات الأحداث كشفت هذه المؤامرة، وبدأت تمهد لمرحلة جديدة لهذا الزعيم، وهي مرحلة تولي رئاسة الحكومة، فما هي مسارات هذا الانجاز؟ رابعا: أردوغان وتأسيس الحزب الجديد (العدالة والتنمية): شكلت محطة عزل أردوغان من تسيير بلدية إسطنبول، مرحلة جديدة في حياة هذا الزعيم، إذ سيتعرض للاعتقال والسجن عدة مرات، وذلك بسبب تهم زائفة كانت توجه إليه. إلا أن أردوغان لم يجعل من لحظة السجن لحظة حزن وانكسار وهزيمة، بل حولها للحظة تيقظ ذهني خالص، حيث بدأ يفكر في مستقبل تركيا وكيف يمكن أن يخرجها من وضعية التخلف إلى مصاف الدول المتقدمة، وقد عبر عن هذه الهواجس عندما دخل السجن قائلا:"وإنني في الأربعة أشهر التي سأقضيها في السجن سأنشغل بتقييم المشروعات التي طالما قمنا بها حتى هذه اللحظة. وهذه المشروعات إنما تشترك في هدف واحد وهو ان نصل بوطننا وأمتنا في مجالات الاقتصاد، والصحة، والتعليم، والعلم، والإدارة المحلية، والرياضة، وحقوق الإنسان، والتكنولوجيا، والدفاع، والعلاقات الدولية بما يتناسب بمعدلات الألفية الثالثة". دخول أردوغان للسجن، سيقوي من علاقته بالشعب، حيث زاره في المعتقل أكثر من 33 ألف شخص، وإذا كان السجن محنة فإن أردوغان سيحوله إلى منحة، إذ فيه بدا يخطط كيف يصبح رئيسا للوزراء ورئيسا للجمهورية. وقد تزامن هذا الطموح مع إغلاق حزب الرفاه، وتأسيس حزب الفضيلة، الذي بدا يعرف تصدعات بين تيارين كبيرين: التقليديين والتجديديين. انطلاقا من هذا الوضع، سيتشكل رأي عام داخل النخبة الشابة في الحزب، بضرورة تطوير آليات العمل وأسلوب إدارة الحزب، في اتجاه ترسيخ المنهجية الديمقراطية في اتخاذ القرار، وفسح المجال لجميع الطاقات بدون تمييز. إلا أن هذا الخيار لم يحقق أهدافه، فبدأ التفكير "في تأسيس حزب سياسي جديد، ليعبر عن رغبة في إعادة إحياء الفكر الوطني، واستعادة كل الطاقات والفعاليات التي كانت تناضل داخل كل الأحزاب الأخرى". لم يكن السياق الداخلي الذي يعتمل في مسارات حزب الفضيلة، من توجهات نحو التغيير كافية للتفكير في تأسيس حزب جديد، بل إن السياق الوطني ساهم بدوره في تسريع هذه الحركية، فقد شكلت حالة الانقلاب الأبيض على السلطة من طرف سدنة الحكم في 28 فبراير /شباط من العام 1998، حافزا آخر على المضي في هذه المغامرة. فالحياة السياسية أصبحت شبه معطلة، وتراجع دور الأحزاب في التأطير، وتفاقمت الوضعية الاقتصادية السيئة على البلاد، في مقابل ازدياد حجم وثيرة الفساد، حيث نهبت خزانة الدولة، وأصبح الوضع غير مطمئن ويتسم بضبابية الأفق. في خضم هذه الأزمة، سينقدح في ذهن الزعيم السياسي ومحبوب الجماهير التركية، فكرة إنشاء كيان سياسي جديد، وقد شكلت هذه اللحظة محطة تاريخية متميزة في مسيرة هذا الزعيم. إذ أنه بدأ يفكر في إدارة الدولة لاخراجها من أزمتها السياسية. ولهذا فقد توجه "أردوغان" إلى كل الفعاليات والأطر والكفاءات وعموم الشعب، وبشكل خاص للنساء، وإلى النخب الإقتصادية، للخروج من حالة السلبية والتردد والكلالة، والتفكير في مستقبل تركيا. في 14 أغسطس من سنة2001، تم تأسيس حزب العدالة والتنمية، وبذلك تبدأ مرحلة تاريخية في عهد تركيا المعاصرة، ويمكن القول أن "حدث تأسيس حزب العدالة والتنمية: اليوم سيكتب تاريخ السياسية التركية على أنه:اليوم الذي سقط فيه حكم الأقلية القائدة، وعلى أنه أيضا: اليوم الذي حل فيه مفهوم جديد لقيادة تمثل العقل الجمعي، بدلا من قيادة اعتمدت على الاحتكار." وبدون مبالغة فإن فكرة تأسيس حزب سياسي جديد إنما شكلت مرحلة وعي متجذر بطبيعة التحول الذي تجتازه تركيا، ف "سيكتب في تاريخ السياسية التركية على أنه اليوم الذي تأسس فيه نموذج لتكتل سياسي جديد تماما، وشفاف في كل الاتجاهات، ويطالب بنزاهة الانتخابات والرقابة عليها". خامسا: انتخابات 3نوفمبر 2002، وفوز حزب العدالة والتنمية: لم يكن من الهين على حزب ناشئ، كحزب العدالة والتنمية، الذي تأسس في سنة2001، ليخوض رهان الانتخابات التشريعية في أقل من سنة، لكن السمعة الطيبة والمتميزة لزعيمه، طيب رجب أردوغان، ولحمولته الفكرية والدينية، وشعبيته الواسعة، ستمكن هذا الحزب مما يمكن تسميته ب"حرق المراحل" والتمكن من الفوز. إلا أن هذا المعطى الذاتي الخاص بزعيم الحزب وبتاريخه، لا يجب أن ينسيها الشروط الموضوعية التي مرت فيها الانتخابات، فقد كانت الدعوة لهذه الاستحقاقات السابقة لأوانها، بالنظر لحجم التحديات التي كانت تواجهها تركيا في هذه المرحلة. فعلاوة على التصدع السياسي الذي وقع في البلد، جراء النهج ألتحكمي التسلطي الذي تسببت فيه النخبة الحاكمة، فإن الوضع الاقتصادي كان سيئا للغاية، "فارتفاع الدولار مقارنة مع الليرة أدى إلى وقوع تضخم في الدولة وصلت نسبة العجز فيه 50 بالمائة، ارتفاع نسب الفوائد، وكان رد فعل الحكومة، اللجوء لصندوق النقد الدولي، وعندما عجزت عن ذلك التجأت لرفع الضرائب على المواطنين"وفي هذه الأثناء قام حزب اليسار الديمقراطي، بإخلاء السبيل للسجون وسرح ما يقرب من 60000 ألف سجين وارتفعت الجريمة والسرقة والاغتصاب، وأصبح الشعب يعيش في حالة اللأمن". في هذه الأثناء، سيتم الدعوة لانتخابات مبكرة في 3نوفمبر2002، وقد قاد حزب العدالة والتنمية هذه الاستحقاقات بحرفية عالية، سواء من حيث التنظيم، أو لغة الخطاب الموجه للشعب أو من خلال القدرة على اختراق كل الشرائح المجتمعية  .. وقد اتسم خطاب العدالة والتنمية بالصدق مع الناس، فهذا زعيمه "أردوغان" يعد الناس أنه من أولوياتنا في المرحلة التي سنتولى فيها المسؤولية، ثلاثة أمور: * التخلص في أسرع وقت من الأزمة الاقتصادية. * سيادة العدالة في المجتمع والبدء بتطبيقها على أعضاء الحكومة الذين ثبت تورطهم في ملفات الفساد. * إنهاء فترة اللاستقرار الناجمة عن الحكومات الائتلافية المشكلة من أكثر من حزب. شكل إعلان النتائج ثورة حقيقة في المجتمع التركي، فقد حصل حزب العدالة والتنمية على أغلبية المقاعد، مما مكنه من تشكيل الحكومة رقم 58 في تاريخ الجمهورية على يد "عبد الله غول" رفيق درب طيب رجب أردوغان، ومناضل الحزب القوي. لقد كان "طيب رجب أردوغان" طوال حياته السياسية يضع نصب عينيه مسؤوليتين: الأولى مسؤولية تاريخية، والثانية اجتماعية."أما مسؤوليته التاريخية فيمكن تلخيصها بأنه عمل على تحقيق تصالح بين الدولة وبين أيديولوجية مخالفة لأيديولوجية الجمهورية والدولة القومية، بل وعمل على انتزاع الفتور القائم بين كلا الطرفين منذ عقود طويلة. "فعادة (الفتور من الدولة) التي بدأت في الظهور منذ نهايات الدولة العثمانية قد ازدادت سرعة مع العصر الجمهوري.فالدولة في إتباعها لسياسة الاتجاه نحو الغرب قد أدت لشعور الشعب بالاغتراب". أما فترة التعددية الحزبية فقد وجد الشعب إمكانية التعبير واتخاذ القرار، ولأول مرة أصبح يتصرف بحرية. والبناء السياسي لتركيا بدأ في الخروج من مركزية الدولة شيئا فشيئا... لا شك أن سر نجاح حزب العدالة والتنمية، ومن ورائه زعيمه السياسي "أردوغان" إنما يعود إلى القيم الديمقراطية التي يتحلى بها، فوعي الرجل بأهمية الديمقراطية، وبكونها المخرج من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الدولة التركية، جعله يتحمل مسؤولياته ويقدم مشروعا مجتمعيا متكامل الأبعاد. ولهذا يؤكد هذا الزعيم في إحدى خطبه بعد فوزه في الانتخابات: "إننا نؤمن بأن حماية الديمقراطية وتطويرها واجب أخلاقي، ونقول إننا سنظل حتى آخر نفس لدينا طلاب لهذا الواجب، وقبل كل شيء لا نعتبر التدخلات الخارجية التي تتم ضد الديمقراطية لدينا إلا أنها شيء غير أخلاقي" "والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون هناك جمهورية إذا لم يتحقق بها الديمقراطية. ولا قوانين في حالة غياب دولة القضاء، ولا مصلحة عامة إن لم تحترم الحقوق الإنسانية. ويكون ذلك الوضع بمثابة دولة غير شرعية تضر بالأمة وليست دولة شرعية تخدم الأمة". إن إيمان الرجل بالتأييد الرباني في مسيرته الحافلة، يظهر من خلال دعائه الذي دعاه في لحظة الإعلان عن النتائج :"يا ربنا القدير، حمدا لك أن جعلتني أعيش هذه الأيام، فلا أبالي الآن إن قبضت روحي وتوفيتني". لا نبالغ إذا قلنا إن تتبع مسيرة هذا الزعيم التاريخي، الذي بصم بمداد من ذهب مرحلة فارقة في تاريخ تركيا المعاصر، يبين كيف أن الزعماء يستطيعون أن يصنعوا التاريخ، وأن يغيروا من مساراته، فمرحلة حزب العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان، تميزت بعدة إنجازات تاريخية عديدة، نذكر من بينها : - ما قدمه للاقتصاد الوطني الذي استطاع أن يستعيد عافيته في ظل فترة وجيزة، وأن يحقق لتركيا تقدما في مؤشرات التنمية الاقتصادية. - ولكن الأهم والأعظم في اعتقادنا، هو ترسيخ القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بما تعنيه من تعزيز كرامة المواطن وضمان حريته وسعادته. إننا في ختام هذه القراءة التركيبة لهذا المؤلف المتميز، لقصة زعيم تاريخي، لا نملك إلا أن ندعو زعماء الأحزاب السياسية والحركات الدعوية الإسلامية وغيرها ومجمل المجتمع المدني، سواء في الوطن العربي أو الإسلامي، أن ينفتحوا على هذه التجربة الرائدة، درسا وتحليلا ومناقشة قصد استلهام عناصرها المضيئة لتكون برنامجا عمليا لكل الزعماء الذين يشرئبون لتحقيق التغيير في زمن التغيير.

لطفي المرايحي ينفي إيقافه

السبت، 12 نوفمبر، 2022 - 22:25