أعتقد أن النتيجة الأهم وربما الوحيدة للزيارة، هي إذلال فرنسا وماكرون شخصيا، حينما داعبه ترامب أمام الكاميرات، وأزاح قشرة الشعر من على كتفه، معلّقا بالتوازي: "والآن أصبحت صبيا مهندما، فلتأكل جيدا يا صغيري، وأطع والدتك حتى تكبر وتصبح قويا".
فيما عدا ذلك، لم تتحقق أي من النتائج المنتظرة ولم يكتف ماكرون بعدم التعبير عن الموقف الأوروبي المستقل بشأن الاتفاق النووي الإيراني، بل اتفق مع رأي ترامب بالكامل، ليسقط بذلك أي دور سياسي فرنسي مستقل إلى قاع الهاوية سقوطا مدويا، عقب تصريحات الرئيس الفرنسي.
السبب في ذلك، هو أن فرنسا أرادت أن تلعب الدور الذي تلعبه بريطانيا، لكن ذلك المكان محجوز لبريطانيا منذ زمن بعيد، وفي الوقت الذي يتوحد فيه الغرب تحت ظروف تحدي روسيا بشكل أساسي والصين بدرجة ثانية لنموذج العالم أحادي القطبية، تسعى الولايات المتحدة من خلال قبضتها الحديدية إلي شحذ همة المقاومة في معسكرها، بليّ أذرع "الحلفاء" الذين يتعيّن عليهم الانصياع لها في كل شيء، حتى ولو كان ذلك على حساب مصالحهم القومية، كما يحدث في العقوبات على روسيا، التي تعاني من سلبياتها أوروبا وليس الولايات المتحدة.
إن ما يحدث هو استقطاب للمواقف، وتحطيم أي إمكانية للحفاظ على الحياد، وفي هذه الظروف لا تستطيع فرنسا اتخاذ موقف مستقل في أي من القضايا الهامة على صعيد السياسة الدولية، ما يعني أنها بالنسبة للعالم لم تعد تختلف عن أي دولة صغيرة مثل مقدونيا أو إستونيا، بعد أن كانت في يوم من الأيام دولة عظمى، ولا تزال حتى يومنا تحاول بشتى الطرق أن تبدو كذلك.
في هذه الظروف أيضا وكي يظل تحت الأضواء، لم يعد أمام إيمانويل ماكرون سوى أن يكون أكثر راديكالية من الولايات المتحدة، وأن يتخذ مواقف أكثر أمريكية من أمريكا نفسها، حتى يأمن جانبها.
ربما كان ذلك هو السبب في محاولات فرنسا طرح القضية الكردية، لنكز تركيا التي تحاول إظهار قدر أكبر من الاستقلال عن الولايات المتحدة، وهو السبب أيضا في مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على سوريا عقب فبركة الأسلحة الكيميائية الاستفزازية في دوما، وكذلك طلب ماكرون بقاء ترامب في سوريا، ثم أخيرا تصريحه بضرورة عقد اتفاق نووي جديد مع إيران، ليشطب بذلك الاتفاق الذي تم التوصل إليه بصعوبة بالغة، ويخيّب آمال العالم الذي كان ينتظر من ماكرون عكس هذا الموقف تماما.
تكمن مشكلة ماكرون في أن المبالغة في الموالاة لأمريكا: "أمريكا X 2" أو حتى "أمريكا X 3" هو دور تمارسه بريطانيا منذ وقت طويل.
ويجب على ماكرون لكي يتفوق عليها، أن يأتي بأمر غير اعتيادي، كأن يعلن الحرب على روسيا مثلا، بعد أن هيأت بريطانيا الغرب لذلك، ووضعته على حافة تلك الحرب.
لكن ماكرون لن يتمكن من ذلك بطبيعة الحال، لذا فعليه أن يقف في طابور الدول الساعية لتقبيل حذاء ترامب بعد أوكرانيا، وأوروبا الشرقية وغيرهم من "الحلفاء"، كي يكافئه ترامب بأن يزيح قشرة الشعر من على كتفه، ويثني على سلوكه.
لكن من الممكن أن يكون للزيارة تداعيات أخرى جادة على المدى البعيد، فبريطانيا كانت عميلا للولايات المتحدة الأمريكية في الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من أن بولندا ودول البلطيق وغيرها من الدول التابعة تخدم السيد الأمريكي بإخلاص، إلا أن أحدا منها لا يمتلك الثقل السياسي الكافي.
فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبحت ألمانيا تشغل الدور المهيمن عليه، وألمانيا مرتبطة بروسيا اقتصاديا ومهتمة بالتعاون مع روسيا، وليست "مناهضة لروسيا" بالشكل الكافي.
لقد كان أحد الأهداف الرئيسية للأنغلوساكسون في أوروبا الحؤول دون تقارب ألمانيا مع روسيا، لكن الاستفزاز المستمر والحشد ضد روسيا هو أمر محفوف بالمخاطر، وقد يؤدي إلى الحرب، لذلك فالولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى آلية يومية للسيطرة على أوروبا.
وهنا تبرز الفائدة الوحيدة لماكرون بالنسبة لترامب، وهي أن يكون عميلا للتأثير الأمريكي على الاتحاد الأوروبي، حيث كان ماكرون أثناء الزيارة يتطلع إلى عيني ترامب بإخلاص شديد، وبدا هذا السيناريو معه أكثر من محتمل.
في النهاية فلكل شئ ثمنه، ويبدو أن الأمر الوحيد الذي تتحد عليه أوروبا الآن هو غياب الفعل تماما.
فأي فعل واقعي أو ضرورة لاتخاذ موقف سياسي واضح تجاه أي من القضايا التي تعجّ بها السياسة الدولية في عالمنا المضطرب، سوف يؤدي إلى انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، الذي اختلقت نشأته اختلاقا، وترعرع فقط في ظل الظروف الدافئة لتسعينات القرن الماضي... حتى أن تلك الهستيريا المناهضة لروسيا، والحشد الواضح من الغرب ضدها أصبح أحد الأمور التي تختلف عليها أوروبا بدلا من أن توحدها.
لذلك تصبح محاولات فرنسا للعودة إلى أمجاد الماضي في ظل هذه الظروف، سببا إضافيا في تحطيم الاتحاد الأوروبي الذي يمر أصلا في مرحلة انهيار بطيء.
المصدر: روسيا اليوم