مقاﻻت رأي

الإسلاميّون و الحكم ..النّهضة نموذجا

سامي براهم | السبت، 17 جانفي، 2015 على الساعة 15:09 | عدد الزيارات : 3333
دخلت النهضة تجربة الحكم دون سابق تجربة أو خبرة أو جاهزيّة من حيث الموارد البشريّة و الرّؤية و البرنامج و التصوُّر المتعلّق بإدارة الدّولة خاصّة في مرحلة انتقال ديمقراطي دقيقة تشهد تحوّلات اجتماعيّة و سياسيّة عميقة ، مع تركة استبداد و فساد ثقيلة ،

هي مرحلة تأسيس جديد تجد فيه حركة سياسيّة تخرج لتوّها من الحصار الأمني و التّدمير الممنهج في موقع متقدّم من إدارة الدّولة و مؤسساتها و هياكلها و تسطير سياساتها ،

و إذا أردنا أن نشخّص طريقة أداء النّهضة في الحكم يمكن أن نسجّل مفارقة لافتة حيث تعتبر نقاط ضعف النّهضة في تسيير الشَّأْن العام هي نفسها نقاط قوّتها حيث اتّسم أداؤها بالتردّد و عدم الحسم في عدد من القضايا الشّائكة و الواقعيّة و البراجماتيّة و المناورة و الضّعف أحيانا في اتّخاذ القرارات الحاسمة و لعلّ مردّ ذلك الخوف من تبعات الحسم في قضايا ليس حولها إجماع سياسي يسندها في مرحلة شهدت أقصى أشكال تجاذبات و المزايدات و أجواء الاحتقان و الشحن و التّحريض ، اختارت النّهضة أن تحتمي جزئيا بشريكين في الحكم لتتجنب العزلة السياسيّة و تهمة الانفراد بالحكم و هو ما ساهم في تخفيف العبء السياسي و المعنوي عنها ، و إن أضاف لها عبء إدارة شراكة حكم ليس لها سابقة في تاريخ تونس ، لقد واجهت النّهضة و حلفاؤها في الحكم حركة رفض و احتجاج عارمة شارك فيها أحزاب و نوّاب في التّأسيسي و منظّمات وطنيّة و نخب و كانت مسنودة بحملات إعلاميّة واسعة و ممنهجة و مكثفة كمّا و نوعا و متواترة زمنيا و كانت الغاية واضحة و هي التشكيك لا في النهضة و أدائها و أهليتها لإدارة الحكم فقط و لكن في كلّ المنظومة التي أفرزتها انتخابات 23 أكتوبر و خاصّة المجلس التأسيسي الذي شكّك نوّاب من داخله في جدواه و دعوا الى إنهاء مهامّه و حاولوا الضغط من أجل ذلك في حركة أشبه بالانقلاب و السّطو على إرادة الشعب ، و لعلّ ما يفسّر كلّ هذه الحركة الرافضة للمنظومة التي أفرزتها الانتخابات هو عدم توقّع مهندسي القانون الانتخابي الذي حبك بالشكل الذي يفرز أوسع هامش من التنوع داخل المجلس و يعوّم الحضور الإسلامي و يمكّن من تشكيل أغلبيّة من الأحزاب ذات المرجعيّة الحداثيّة و لكنّ النّاخب كانت له وجهة أخرى لاعتبارات متعدّدة

في ظلّ هذا الوضع السياسي و الاجتماعي المتّسم بالشحن و التحريض بالإضافة إلى دخول عامل الإرهاب على الخطّ في التقاء موضوعي عجيب مع أجندة إسقاط الحكومة أصبحت كلّ ملفات الحكم ملغومة بل لا تكاد الحكومة تضع يدها على أيّ قضيّة من القضايا الا و وجدت النقد و التشنيع و التشكيك في وجاهة أيّ قرار يتخذ في شأنها سواء كان ذلك حقا أو باطلا ، و لعلّ هذا ما يفسّر التردّد و الارتباك و الجنوح لتعويم القضايا و الملفّات الكبرى و الخضوع لضغوطات الواقع و إكراهاته خاصّة بعد دخول العامل الأجنبي الإقليمي و الدّولي كفاعل سياسي مباشر في المعادلة الوطنيّة ،

و كذلك بعد عودة المنظومة القديمة من خلال واجهة سياسيّة علنيّة حظيت بتطبيع المعارضة التي انخرطت معها في تحالفات و ائتلافات سياسيّة ، كلّ هذه السياقات المربكة جعلت النّهضة مشوشة بين استحقاقات الملف الاجتماعي و الاقتصادي و تحدي المحافظة على وجودها في الحكم و اجتناب السيناريو المأساوي الذي وقع في مصر ،

لذلك انخرطت النهضة في سلسلة من التنازلات أهمّها عدم تمرير قانون العزل السياسي و خفّضت من سقف انتظاراتها و رهاناتها السياسيّة و اصبح هاجسها إنقاذ الدّستور و المؤسسة الوحيدة التي أفرزتها الثورة " المجلس التّأسيسي " و اجتناب الاحتراب الأهلي و الخبار الانقلابي ، لذلك أعدّت لخروجها الآمن من الحكم بعد فشل كل محاولات استرضاء المعارضة و استدراجها لحكومة ائتلاف وطني واسع من خلال مفاوضات قصر الضيافة التي باءت بالفشل ، و كان دخولها حلبة الحوار الوطني بمثابة ترتيب لشكل خروجها من الحكومة و شروطه و ضماناته ، فاختارت النهضة الخروج مقابل مواصلة التّأسيسي لمهامه و على رأسها إنجاز الدّستور و الاتفاق على حكومة كفاءات تشارك في اختيار رئيسها و أعضاء حكومته من أوكد مهامها إجراء انتخابات في آجال محدّدة و كذلك مقابل تأمين جسمها التنظيمي و تجنيبه خيار التّدمير و الاستئصال ،

و إذا أردنا تقييم حصيلة هذه السياسة يمكن القول أنّها أضرّت بالصورة النضاليّة للنهضة و أخرجتها من واجهة الحكم وساهمت في عودة من تحملوا مهام في المنظومة القديمة عبر صندوق الاقتراع و لكن في المقابل ساهمت في المحافظة على الدّولة و مؤسساتها و الإبقاء على الصّراع بين الفرقاء داخل النسق السياسي السلمي و عدم الانزلاق به في أتون العنف و الاحتراب الأهلي كما ساهمت في أنقاذ التعاقد الوطني من خلال إصرارها على استحقاق الدّستور الذي يصادق عليه نواب الشعب و لا يوكل للجنة خبراء كما طالب بذلك عدد من الأحزاب و النخب ، كما أنّ حصيلتها الانتخابيّة في التشريعي لم تكن كارثيّة حيث بقيت طرفا فاعلا قويًّا في المعادلة السياسيّة رغم خيار التصويت النافع و حملات القصف الإعلامي المتواصل ، يبقى الرّهان الذي يجب أن تتخطاه النهضة لتكون حالة طبيعية في المجتمع و فاعلا أساسيا في بناء معالم مشروع وطني متجدّد هو ترتيب البيت الداخلي من حيث إعادة تشكيل التنظيم و هياكله و مؤسساته و موارده البشريّة على أسس مدنيّة عصريّة ديمقراطية أفقيّة تجمع بينها رؤى و تصورات و برامج سياسية تستجيب لحاجات الواقع الراهنة و الاستراتيجية ، ضمن أفق ما أقرّه الدّستور من قيم و استحقاقات تحتاج تبيئة و تأصيلا داخل منظومة الشريعة ، ممّا يقتضي إنجاز نقلة نوعية على مستوى الوعي السياسي و التّأويليّة ذات المرجعية الدينيّة ، و التكوين و التّأطير و المعارف المتعلقة بإدارة الشَّأْن العام ، لا يمكن للنّهضة أن تسهم في نهضة البلد دون أن تنجز نهضة داخلها و تتخلّص نهائيا من رواسب ثقافة الجماعة الدينيّة و الوعي الاخواني الشقيّ دون ان تنقطع عن مرجعيتها الإسلاميّة التي تشترك فيها مع كل التونسيين كما هو مقرّر في الدّستور ،